قال مقاتل : فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين ، وأظهروا لهم العداوة والبراءة ، ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله :{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } أي من كفار مكة ، { مودةً } ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم ، فصاروا لهم أوفياء وإخواناً ، وخالطوهم وناكحوهم ، { والله قدير والله غفور رحيم } .
ثم أخبر تعالى أن هذه العداوة التي أمر بها المؤمنين للمشركين ، ووصفهم بالقيام بها أنهم ما داموا على شركهم وكفرهم ، وأنهم إن انتقلوا إلى الإيمان ، فإن الحكم يدور مع علته ، فإن المودة{[1055]} الإيمانية ترجع ، فلا تيأسوا أيها المؤمنون ، من رجوعهم إلى الإيمان ، ف { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً } سببها رجوعهم إلى الإيمان ، { وَاللَّهُ قَدِيرٌ } على كل شيء ، ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولا يكبر عليه عيب أن يستره ، { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وفي هذه الآية إشارة وبشارة إلى إسلام بعض المشركين ، الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين ، وقد وقع ذلك ، ولله الحمد والمنة .
ولما نزلت هذه الآيات الكريمات ، المهيجة على عداوة الكافرين ، وقعت من المؤمنين كل موقع ، وقاموا بها أتم القيام ، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين ، وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه .
وفي الآية الأولى من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس ؛ في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين ، وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة :
( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ) . .
وهذا الرجاء من الله ، معناه القطع بتحققه . والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به ، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة ، وأن أسلمت قريش ، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد ، وأن طويت الثارات والمواجد ، وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب .
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً } أي : محبة بعد البِغْضَة ، ومودة بعد النَّفرة ، وألفة بعد الفرقة . { وَاللَّهُ قَدِيرٌ } أي : على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة ، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة ، فتصبح مجتمعة متفقة ، كما قال تعالى ممتنًا على الأنصار : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } الآية [ آل عمران : 103 ] . وكذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " ألم أجِدْكُم ضُلالا فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألَّفَكُم الله بي ؟ " {[28670]} . وقال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[ الأنفال : 62 ، 63 ] . وفي الحديث ( أحبِبْ حَبيبَكَ هونًا مّا ، فعسى أن يكونَ بَغيضَكَ يومًا ما . وأبغِض بغيضَك هونًا ما ، فعسى أن يكون حبيبك يومًا ما ){[28671]} . وقال الشاعر{[28672]} :
وَقَد يجمعُ اللهُ الشتيتين بعد ما *** يَظُنان كُل الظنّ ألا تَلاقَيا
وقوله تعالى : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له ، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه ، من أيّ ذنب كان .
وقد قال مقاتل بن حيان : إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان ، صخر بن حرب ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته فكانت هذه مودة ما بينه وبينه .
وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر ؛ فإن رسول تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح ، وأبو سفيان إنما أسلم{[28673]} ليلة الفتح بلا خلاف . وأحسن من هذا ما رواه بن أبي حاتم حيث قال : قُرئ على محمد بن عَزيز : حدثني سلامة ، حدثني عقيل ، حدثني ابن شهاب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدًا ، فقاتله ، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين . قال ابن شهاب : وهو ممن أنزل الله فيه : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } {[28674]} .
وفي صحيح مسلم ، عن ابن عباس : أن أبا سفيان قال : يا رسول الله ، ثلاث أعطنيهنّ . قال : " نعم " . قال : وتؤمّرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين . قال : " نعم " . قال : ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك . قال : " نعم " . قال : وعندي أحسن العرب وأجمله ، أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها . . . الحديث . وقد تقدم الكلام عليه {[28675]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مّوَدّةً وَاللّهُ قَدِيرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : عسى الله أيها المؤمنون أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم من أعدائي من مشركي قريش مودّة ، ففعل الله ذلك بهم ، بأن أسلم كثير منهم ، فصاروا لهم أولياء وأحزابا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { عَسَى اللّهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدّةً }قال : هؤلاء المشركون قد فعل ، قد أدخلهم في السلم وجعل بينهم مودّة حين كان الإسلام حين الفتح .
وقوله : { واللّه قَدِيرٌ } يقول : والله ذو قدرة على أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم من المشركين مودّة { وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }يقول : والله غفور لخطيئة من ألقى إلى المشركين بالمودّة إذا تاب منها ، رحيم بهم أن يعذّبهم بعد توبتهم منها ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { عَسَى اللّهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدّةً واللّهُ قَدِيرٌ }على ذلك { واللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }يغفر الذنوب الكثيرة ، رحيم بعباده .