مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجۡعَلَ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ عَادَيۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةٗۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٞۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (7)

أما قوله : { عسى الله } فقال مقاتل : لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقاربهم والبراءة منهم فأنزل الله تعالى قوله : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } أي من كفار مكة { مودة } وذلك بميلهم إلى الإسلام ومخالطتهم مع أهل الإسلام ومناكحتهم إياهم . وقيل : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ، فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان ، واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت أم حبيبة قد أسلمت ، وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة ، فتنصر وراودها على النصرانية فأبت ، وصبرت على دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، فخطبها عليه ، وساق عنه إليها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا يفدغ أنفه ، و { عسى } وعد من الله تعالى : { وبين الذين عاديتم منهم مودة } يريد نفرا من قريش آمنوا بعد فتح مكة ، منهم أبو سفيان بن حرب ، وأبو سفيان بن الحرث ، والحرث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام ، والله تعالى قادر على تقليب القلوب ، وتغيير الأحوال ، وتسهيل أسباب المودة ، { والله غفور رحيم } بهم إذا تابوا وأسلموا ، ورجعوا إلى حضرة الله تعالى ، قال بعضهم : لا تهجروا كل الهجر ، فإن الله مطلع على الخفيات والسرائر . ويروى : أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما .

ومن المباحث في هذه الحكمة هو أن قوله تعالى : { ربنا لا تجعلنا فتنة } إذا كان تأويله : لا تسلط علينا أعداءنا مثلا ، فلم ترك هذا ، وأتى بذلك ؟ فنقول : إذا كان ذلك بحيث يحتمل أن يكون عبارة عن هذا ، فإذا أتى به فكأنه أتى بهذا وذلك ، وفيه من الفوائد ما ليس في الاقتصار على واحد من تلك التأويلات .

الثاني : لقائل أن يقول : ما الفائدة في قوله تعالى : { واغفر لنا ربنا } وقد كان الكلام مرتبا إذا قيل : لا تجعلنا فتنة للذين كفروا إنك أنت العزيز الحكيم فنقول : إنهم طلبوا البراءة عن الفتنة ، والبراءة عن الفتنة لا يمكن وجودها بدون المغفرة ، إذ العاصي لو لم يكن مغفورا كان مقهورا بقهر العذاب ، وذلك فتنة ، إذ الفتنة عبارة عن كونه مقهورا ، و { الحميد } قد يكون بمعنى الحامد ، وبمعنى المحمود ، فالمحمود أي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم ، والحامد أي يحمد الخلق ، ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال .