قوله عز وجل :{ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } قرأ أهل الكوفة : صدق بالتشديد أي : ظن فيهم ظناً حيث قال : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين } ولا تجد أكثرهم شاكرين ، فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : صدق عليهم في ظنه بهم ، أي : على أهل سبأ . وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله ، { فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } قال السدي عن ابن عباس : يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين ، وقد قال الله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } يعني : المؤمنين . وقيل : هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه . قال ابن قتيبة : إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله ، ( قال لأغوينهم أجمعين ) ولأضلنهم ، لم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظناً فيهم ، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم . قال الحسن : إنه لم يسل عليهم سيفاً ولا ضربهم بسوط وإنما وعدهم ومناهم فاغتروا .
ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدَّق عليهم إبليس ظنه ، حيث قال لربه : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وهذا ظن من إبليس ، لا يقين ، لأنه لا يعلم الغيب ، ولم يأته خبر من اللّه ، أنه سيغويهم أجمعين ، إلا من استثنى ، فهؤلاء وأمثالهم ، ممن صدق عليه إبليس ظنه ، ودعاهم وأغواهم ، { فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ممن لم يكفر بنعمة اللّه ، فإنه لم يدخل تحت ظن إبليس .
ويحتمل أن قصة سبأ ، انتهت عند قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
ثم ابتدأ فقال : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ } أي : على جنس الناس ، فتكون الآية عامة في كل من اتبعه .
وفي ختام القصة يخرج النص من إطار القصة المحدود ، إلى إطار التدبير الإلهي العام ، والتقدير المحكم الشامل ، والسنة الإلهية العامة ؛ ويكشف عن الحكمة المستخلصة من القصة كلها ، وما يكمن فيها وخلفها من تقدير وتدبير :
( ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه . إلا فريقاً من المؤمنين . وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك . وربك على كل شيء حفيظ ) . .
لقد سلك القوم هذا المسلك ، الذي انتهى إلى تلك النهاية ، لأن إبليس صدق عليهم ظنه في قدرته على غوايتهم ، فأغواهم ، ( فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ) . . كما يقع عادة في الجماعات فلا تخلو من قلة مؤمنة تستعصي على الغواية ؛ وتثبت أن هنالك حقاً ثابتاً يعرفه من يطلبه ؛ ويمكن لكل من أراد أن يجده وأن يستمسك به ، حتى في أحلك الظروف
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ فَاتّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنّهُ فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : وَلَقَدْ صَدّقَ بتشديد الدال من صَدّق ، بمعنى أنه قال ظنا منه : وَلا تَجِد أَكَثرَهُمْ شاكِرِينَ وقال : فَبِعِزّتِكَ لأُغَوْيَنّهُمْ أجَمعِينَ إلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ثم صدّق ظنه ذلك فيهم ، فحقّق ذلك بهم ، وباتباعهم إياه . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والشأم والبصرة «وَلَقَدْ صَدَقَ » بتخفيف الدال ، بمعنى : ولقد صدق عليهم ظنه .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى وذلك أن إبليس قد صدَق على كفرة بني آدم في ظنه ، وصدق عليهم ظنّه الذي ظنّ حين قال : ثُمّ لاَتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانِهِمْ وَعَنْ شَمائلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ، وحين قال : وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ . . . الاَية ، قال ذلك عدوّ الله ، ظنا منه أنه يفعل ذلك لا علما ، فصار ذلك حقا باتباعهم إياه ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام على قراءة من قرأ بتشديد الدال : ولقد ظنّ إبليس بهؤلاء الذين بدّلناهم بجنّتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ، عقوبة منا لهم ، ظنا غير يقين ، علم أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله ، فصدق ظنه عليهم ، بإغوائه إياهم ، حتى أطاعوه ، وعصوا ربهم ، إلا فريقا من المؤمنين بالله ، فإنهم ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : أخبرني عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس أنه قرأ : وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنّهُ مشددة ، وقال : ظنّ ظنا ، فصدّق ظنه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنّهُ قال : ظنّ ظنا فاتبعوا ظنه .
قال : ثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنّهُ قال ألله : ما كان إلا ظنا ظنه ، والله لا يصدّق كاذبا ، ولا يكذّب صادقا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنّهُ قال : أرأيت هؤلاء الذين كرّمتهم عليّ ، وفضّلتهم وشرّفتهم ، لا تجد أكثرهم شاكرين ، وكان ذلك ظنا منه بغير علم ، فقال الله : فاتّبَعُوهُ إلاّ فَرِيقا منَ المُؤْمِنِينَ .
{ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك ، ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في : { صدق وعده } . لأنه نوع من القول ، وشدده الكوفيون بمعنى حق ظنه أو وجده صادقا . وقرئ بنصب { إبليس } ورفع الظن مع التشديد بمعنى وجد ظنه صادقا ، والتخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم ، وبرفعهما والتخفيف على الأبدان وذلك أما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم ، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب ، أو سمع من الملائكة قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } فقال : { لأضلنهم } و{ لأغوينهم } . { فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه ، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار ، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون .
الأظهر أن هذا عطف على قوله : { وقال الذين كفروا هل ندلُّكم على رجل } [ سبأ : 7 ] الآية وأن ما بينهما من الأخبار المسوقة للاعتبار كما تقدم واقع موقع الاستطراد والاعتراض فيكون ضمير { عليهم } عائداً إلى { الذين كفروا } من قوله : { وقال الذين كفروا هل نُدلكم } الخ . والذي درج عليه المفسرون أن ضمير { عليهم } عائد إلى سبأ المتحدث عنهم . ولكن لا مفرّ من أن قوله تعالى بعد ذلك : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون اللَّه } [ سبأ : 22 ] الآيات هو عَوْد إلى محاجة المشركين المنتقل منها بذكر قصة داود وسليمان وأهل سبا . وصلوحية الآية للمحملين ناشئة من موقعها ، وهذا من بلاغة القرآن المستفادة من ترتيب مواقع الآية .
فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شَرَك وسوسته .
فالمعنى : أن الشيطان سوّل للمشركين أو سوّل للمُمثَّل بهم حالُ المشركين الإِشراك بالمنعم وحسَّن لهم ضد النعمة حتى تمنّوه وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكرّه إليهم نصائح الصالحين منهم فَصَدق توسُّمُه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها وأعرضوا عن خلافها فاتبعوه .
ففي قوله : { صدق عليهم إبليس ظنه } إيجاز حذف لأن صِدق الظن المفرع عنه اتَّباعهم يقتضي أنه دعاهم إلى شيء ظانّاً استجابة دعوته إياهم .
وقرأ الجمهور { صدق } بتخفيف الدال ف { إبليس } فاعل و { ظنه } منصوب على نزع الخافض ، أي في ظنه . و { عليهم } متعلق ب { صدق } لتضمينه معنى أوقع أو ألقى ، أي أوقع عليهم ظنه فصدق فيه . والصِدق بمعنى الإِصابة في الظن لأن الإِصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق . قال أبو الغول الطُهَوي من شعراء الحماسة :
فدتْ نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صُدِّقَتْ فيهم ظنوني
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف { صدَّق } بتشديد الدال بمعنى حقّق ظنه عليهم حين انخدعوا لوسوسته فهو لمّا وسوس لهم ظن أنهم يطيعونه فجدّ في الوسوسة حتى استهواهم فحقق ظنه عليهم .
وفي ( على ) إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم .
وقوله : { فاتبعوه } تفريع وتعقيب على فعل { صدق عليهم إبليس ظنه } أي تحقق ظنه حين انفعلوا لفعل وسوسته فبادروا إلى العمل بما دعاهم إليه من الإِشراك والكفران .
و { إلا فريقاً } استثناء من ضمير الرفع في { فاتبعوه } وهو استثناء متصل إن كان ضمير « اتبعوه » عائداً على المشركين وأما إن كان عائداً على أهل سبا فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنين وإلا فهو استثناء منقطع ، أي لم يعصه في ذلك إلا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة ، أو الذين آمنوا من أهل سبا . فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم .
والفريق : الطائفة مطلقاً ، واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية ، وإلا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى :
{ فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } [ الأعراف : 30 ] .
والتعريف في { المؤمنين } للاستغراق و { مِن } تبعيضية ، أي إلا فريقاً هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان .