اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَيۡهِمۡ إِبۡلِيسُ ظَنَّهُۥ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (20)

قوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه } قرأ الكوفيون صَدَّقَ بتشديد الدال والباقون بتخفيفها{[44503]} ، فأما الأولى «فظَنَّهُ » مفعول به{[44504]} والمعنى أن ظنَّ إبليس ذهب إلى شيء فوافق فصدق هو ظنه على المجاز والاتساع ومثله : كَذَّبْتُ ظَنِّي ونَفْسي وصَدَّقْتُهُمَا وصدَّقَانِي وَكذَّبانِي وهو مجاز شائع سائغ أي ظن شيئاً فوقع{[44505]} وأصله من قوله : { فلأغوينهم ولأضلنهم } [ النساء : 119 ] وقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه . وأما الثانية : فانتصب «ظنه » على ما تقدم من المفعول به كقولهم «أصَبْتُ ظَنِّي ، وأَخْطَأت ظَنِّي »{[44506]} أو على المصدر بفعل مقدر أي «يَظُنُّ ظَنَّهُ » أو على إسقاط ( الخافض{[44507]} أي ) في ظَنَّه{[44508]} ، وزيد بن علي والزُّهْريُّ بنصب «إبليسَ » ورفع «ظَنُّهُ »{[44509]} كقول الشاعر :

4130- فَإنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقاً فَهْوَ صَادق . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[44510]}

جعل «ظنه » صادقاً{[44511]} فيما ظنه مجازاً واتساعاً ، وروي عن أبي عمرو برفعهما{[44512]} وهي واضحة جعل «ظنه » بدل اشتمال من إبليس والظاهر أن الضمير في «عليهم » عائد على أهْلِ سَبَأَ و «إلاَّ فَريقاً » استثناء من فاعل «اتَّبَعُوه » و «مِنَ المُؤمِنِينَ » صفة «فَريقاً » و «مِنْ » للبَيَان لا للتبعيض لئلا يَفْسد المعنى ؛ إذا يلزم أن يكون بعض من آمن اتبع إبْليسَ{[44513]} .

فصل

قال المفسرون : صدق عَلَيْهم أي على أهل سبأ . وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله فاتَّبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين{[44514]} . قال السدي عن ابن عباس يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين{[44515]} وقد قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] يعني المؤمنين وقيل : هو خالص في المؤمنين الذين يطيعون الله ولا يَعْصُونه . وقال ابن قتيبة : إن إبليس سأل النظرة فأنَظَرَهُ الله قال : لأغويَنَّهُمْ وَلأضِلَّنَّهُمْ لم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قال ظناً فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم{[44516]} .


[44503]:ذكر أبو البقاء 1067 وابن الأنباري 2/279 والفراء في معانيه 2/360 والنحاس 3/344 والزجاج في 4/251 ومكي في المشكل 2/208.
[44504]:الدر المصون 4/432.
[44505]:التبيان 1067 والبيان لابن الأنباري 2/279 قال ابن الأنباري : "أن يكون منصوبا انتصاب المفعول به على الاتساع". وقال أبو البقاء في التبيان: "قوله تعالى: {صدق عليهم} بالتخفيف و "إبليس" فاعله، و "ظنه" بالنصب على أنه مفعول ، كأنه ظن فيهم أمرا وواعده نفسه فصدقه".
[44506]:في "ب" صدقه بدل "ظنه" وهو تحريف وخطأ فالتصحيح من "أ" ومن المعنى واللفظ أيضا وانظر: بيان ابن الأنباري 2/279 ومشكل إعراب مكي 2/208 والدر المصون 4/433.
[44507]:ما بين القوسين سقط من "ب".
[44508]:التبيان 1067 والبحر المحيط 7/273 والدر المصون 4/433 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/252 والفراء في معانيه 2/360.
[44509]:أوردها ابن جني في المحتسب 2/191 والزمخشري في الكشاف 3/286 والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 14/290 ومكي في المشكل 2/08 وابن الأنباري في البيان 2/279 والنحاس في إعراب القرآن 3/343 والفراء في المعاني القرآن 2/360. وقد اعترض أبو حاتم – فيما نقله النحاس في إعرابه- على هذه القراءة قال: "ولا وجه لهذه القراءة عندي والله عز وجل أعلم" ، مع أن التفاسير السابقة نقلتها ووجهها الفراء فقال: "ولو قرأ قارىء ولقد صدق عليهم إبليس ظنه، يريد: صدقه ظنه عليهم كما تقول: صدقك ظنك والظن يخطىء ويصيب". وانظر هذه القراءة أيضا في التبيان لأبي البقاء 1067 والبحر لأبي حيان 7/273.
[44510]:صدر بيت من الطويل غير منسوب لقائل عجزه: ........................ يفد نحوكم ألفا من الخيل أقرعا والأقرع : السنام. وقد استشهد به على إسناد الصدق إلى الظن مجازا واتساعا، والبيت في التبيان 1067 والحجة لأبي علي 1/25 والدر 4/433 واللسان ألف والمذكر والمؤنث 522 ومجمع البيان للطبرسي 7/607.
[44511]:المثبت في كلتا النسختين: "صادقة والظاهر "صادقا".
[44512]:الكشاف 3/286 وابن خالويه 121 والفراء 2/360 وجعلها على التكرير أي البدل.
[44513]:قاله في الدر المصون 4/433 والبيان 2/279.
[44514]:زاد المسير 6/450.
[44515]:معالم التنزيل للبغوي 5/389.
[44516]:قال ذلك في المشكل 140 بينما قال في الغريب 356 "وذلك أنه قال: لأضلنهم ولأغوينهم ولآمرنهم بكذا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق ما ظنه أي فيهم".