في السورة تسلية وتذكير للمؤمنين ، وتهديد ووعيد للمعاندين ، بدأت بقسمه تعالى بمظاهر قدرته على أن المتعرضين لإيذاء المؤمنين سيطردون من ساحة الرحمة كما طرد من سلك سبيلهم ممن سبقوهم من الأمم . وأخذت السورة تقص فعل الطغاة بالمؤمنين ، وأتبعت ذلك بوعد المؤمنين وتخويف الطاغين . وأن الحق في كل العصور معرض لمناوأة المناوئين ، وأن القرآن الذي هو دعامة الحق ، وإن كذب به القوم فهو في منأى عن الشك ، لأنه في لوح محفوظ عند الله .
1- أقسم بالسماء ذات المنازل التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها{[229]} .
{ 1 - 22 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ }
{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } أي : [ ذات ] المنازل المشتملة على منازل الشمس والقمر ، والكواكب المنتظمة في سيرها ، على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة الله تعالى ورحمته ، وسعة علمه وحكمته .
سورة البروج مكية وآياتها ثنتان وعشرون
هذه السورة القصيرة تعرض ، حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإيماني . . أمورا عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى ، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية - وأحيانا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة . .
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود . . والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام - قيل إنهم من النصارى الموحدين - ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين ، وأرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقا في الأرض ، وأوقدوا فيه النار ، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقا ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنةبهذه الطريقة البشعة ، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق . حريق الآدميين المؤمنين : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) . .
تبدأ السورة بقسم : ( والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود . . )فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة ، واليوم الموعود وأحداثه الضخام ، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه . . تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل . . مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها ، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها ، وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعا . والتلميح إلى بشاعة الفعلة ، وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل ، إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين : ( النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) . .
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل :
إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض : الله( الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد ) . .
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة ؛ وإلى نعيم الجنة . . ذلك الفوز الكبير . . الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة ، وارتفعوا على فتنة النار والحريق : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير ) . .
وتلويح ببطش الله الشديد ، الذي يبدئ ويعيد : ( إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد ) . . وهي حقيقة تتصل اتصالا مباشرا بالحياة التي أزهقت في الحادث ، وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة . .
وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى . وكل صفة منها تعني أمرا . .
( وهو الغفور الودود )الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع . الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح !
( ذو العرش المجيد . فعال لما يريد ) . . وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة ، والقدرة المطلقة ، والإرادة المطلقة . . وكلها ذات اتصال بالحادث . . كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد .
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة ، وهم مدججون بالسلاح . . ( هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمود ? )وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . ووراءهما - مع حادث الأخدود - إشعاعات كثيرة .
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون : ( بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط ) . .
ويقرر حقيقة القرآن ، وثبات أصله وحياطته : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) . . مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير ، في كل الأمور .
هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السورة ومجالها الواسع البعيد . تمهد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل :
تبدأ السورة - قبل الإشارة إلى حادث الأخدود - بهذا القسم : بالسماء ذات البروج ، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية ، كما قال : ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ) . . وكما قال( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ) . . وإما أن تكون هي المنازل التي تتنقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها ، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء . والإشارة إليها يوحي بالضخامة . وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالسّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ * النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } .
قال أبو جعفر رحمه الله : قوله : والسّماءِ ذَاتِ البُرُوجِ أقسم الله جلّ ثناؤه بالسماء ذات البروج .
واختلف أهل التأويل في معنى البروج في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عُنِي بذلك : والسماء ذات القصور . قالوا : والبروج : القصور . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس والسّماءِ ذَاتِ البُرُوجِ قال ابن عباس : قصور في السماء ، قال غيره : بل هي الكواكب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : البُرُوجِ يزعمون أنها قصور في السماء ، ويقال : هي الكواكب .
وقال آخرون : عني بذلك : والسماء ذات النجوم ، وقالوا : نجومها : بروجها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ذَاتِ البُرُوجِ قال : البروج : النجوم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح والسّماءِ ذَاتِ البُرُوجِ قال : النجوم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : والسّماءِ ذَاتِ البُرُوجِ وبروجها : نجومها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : والسماء ذات الرمل والماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا حصين بن نمير ، عن سفيان بن حسين ، في قوله : والسّماءِ ذَاتِ البُرُوجِ قال : ذات الرمل والماء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : معنى ذلك : والسماء ذات منازل الشمس والقمر ، وذلك أن البروج : جمع برج ، وهي منازل تتخذ عالية عن الأرض مرتفعة ، ومن ذلك قول الله : وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ ، وهي منازل مرتفعة عالية في السماء ، وهي اثنا عشر برجا ، فمسير القمر في كلّ برج منها يومان وثلث ، فذلك ثمانية وعشرون منزلاً ، ثم يستسرّ ليلتين ، ومسير الشمس في كلّ برج منها شهر .