قوله تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } اختلفوا في هؤلاء المسئولين : قال عطاء عن ابن عباس : " لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بعث الله له آدم وولده من المرسلين ، فأذن جبريل ثم أقام ، وقال : يا محمد تقدم فصل بهم ، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل : سل يا محمد { من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أسأل فقد اكتفيت " . وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد . وقال أكثر المفسرين : سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد ؟ وهو قول ابن عباس في سائر الروايات ، ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن والمقاتل ، يدل عليه قراءة عبد الله وأبي : " واسئل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا " ، ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل .
{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } حتى يكون للمشركين نوع حجة ، يتبعون فيها أحدا من الرسل ، فإنك لو سألتهم واستخبرتهم عن أحوالهم ، لم تجد أحدا منهم يدعو إلى اتخاذ إله آخر مع الله مع أن كل الرسل ، من أولهم إلى آخرهم ، يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له . قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وكل رسول بعثه الله ، يقول لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، فدل هذا أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم ، لا من عقل صحيح ، ولا نقل عن الرسل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمََنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ومن الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسألتهم ذلك ، فقال بعضهم الذين أُمر بمسألتهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤمنو أهل الكتابين : التوراة ، والإنجيل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : في قراءة عبد الله بن مسعود «وَاسأَلِ الّذِينَ أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنا » .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَاسْألِ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إنها قراءة عبد الله : «سل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا يقول : سل أهل التوراة والإنجيل : هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد أن يوحدوا الله وحده ؟ قال : وفي بعض القراءة : «واسأل الذين أرسلنا إليهم رسلنا قبلك » . أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَة يُعْبَدُونَ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في بعض الحروف «واسألِ الّذِينَ أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا » سل أهل الكتاب : أما كانت الرسل تأتيهم بالتوحيد ؟ أما كانت تأتي بالإخلاص ؟ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا في قراءة ابن مسعود «سَلِ الّذينَ يَقْرَءُونَ الكِتاب مِنْ قَبْلِكَ » يعني : مؤمني أهل الكتاب .
وقال آخرون : بل الذي أمر بمسألتهم ذلك الأنبياء الذين جُمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : واسْئَلِ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ . . . الاَية ، قال : جمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس ، وصلى بهم ، فقال الله له : سلهم ، قال : فكان أشدّ إيمانا ويقينا بالله وبما جاءه من الله أن يسألهم ، وقرأ فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسأَل الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : فلم يكن في شكّ ، ولم يسأل الأنبياء ، ولا الذين يقرأون الكتاب . قال : ونادى جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فقلت في نفسي : «الاَن يؤمنا أبونا إبراهيم » قال : «فدفع جبرائيل في ظهري » ، قال : تقدم يا محمد فصلّ ، وقرأ سُبْحانَ الّذِي أَسْرَى بعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ . . . حتى بلغ لِنُرِيهُ مِنْ آياتِنا .
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : عنى به : سل مؤمني أهل الكتابين .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يقال : سل الرسل ، فيكون معناه : سل المؤمنين بهم وبكتابهم ؟ قيل : جاز ذلك من أجل أن المؤمنين بهم وبكتبهم أهل بلاغ عنهم ما أتوهم به عن ربهم ، فالخبر عنهم وعما جاؤوا به من ربهم إذا صحّ بمعنى خبرهم ، والمسألة عما جاؤوا به بمعنى مسألتهم إذا كان المسؤول من أهل العلم بهم والصدق عليهم ، وذلك نظير أمر الله جلّ ثناؤه إيانا بردّ ما تنازعنا فيه إلى الله وإلى الرسول ، يقول : فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّهِ وَالرّسُولِ ، ومعلوم أن معنى ذلك : فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ، لأن الردّ إلى ذلك ردّ إلى الله والرسول . وكذلك قوله : وَاسْئَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إنما معناه : فاسأل كتب الذين أرسلنا من قبلك من الرسل ، فإنك تعلم صحة ذلك من قِبَلِنا ، فاستغني بذكر الرسل من ذكر الكتب ، إذ كان معلوما ما معناه .
وقوله : أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ يقول : أمرناهم بعبادة الاَلهة من دون الله فيما جاؤوهم به ، أو أتوهم بالأمر بذلك من عندنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ؟ أتتهم الرسل يأمرونهم بعبادة الاَلهة من دون الله ؟ وقيل : آلِهَةً يُعْبَدُونَ ، فأخرج الخبر عن الاَلهة مخرج الخبر عن ذكور بني آدم ، ولم يقل : تعبد ، ولا يعبدن ، فتؤنث وهي حجارة ، أو بعض الجماد كما يفعل في الخبر عن بعض الجماد . وإنما فعل ذلك كذلك ، إذ كانت تعبد وتعظم تعظيم الناس ملوكهم وسَرَاتهم ، فأُجْرِي الخبر عنها مُجْرى الخبر عن الملوك والأشراف من بني آدم .
الأمر بالسؤال هنا تمثيل لشهرة الخبر وتحققه كما في قول السمؤال أو الحارثي :
سَلي إن جَهِلتِ الناسَ عنا وعنهم
سائِلْ فوارِسَ يَرْبوع بِشدَّتِنا
وقوله : { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] إذ لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في شكّ حتى يَسأل ، وإلا فإن سؤاله الرّسل الذين من قبله متعذر على الحقيقة . والمعنى استقْرِ شرائع الرّسل وكتبهم وأخبارهم هل تجد فيها عبادة آلهة . وفي الحديث « واستفتتِ قلبك » أي تثبت في معرفة الحلال والحرام .
وجملة { أجعلنا } بدل من جملة { واسأل } ، والهمزة للاستفهام وهو إنكاري وهو المقصود من الخبر ، وهو ردّ على المشركين في قولهم : { إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف : 22 ] أي ليس آباؤكم بأهدى من الرّسل الأولين إن كنتم تزعمون تكذيب رسولنا لأنه أمركم بإفراد الله بالعبادة . ويجوز أن يجعل السؤال عن شهرة الخبر . ومعنى الكلام : وإنا ما أمرنا بعبادة آلهة دوننا على لسان أحد من رسلنا . وهذا ردّ لقول المشركين { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] .
و { مِنْ } في قوله : { من قبلك } لتأكيد اتصال الظرف بعامله . و { مِن } في قوله : { من رسلنا } بيان ل { قبلك } .
فمعنى { أجعلنا } ما جعلنا ذلك ، أي جعل التشريع والأمر ، أي ما أمرنا بأن تعبد آلهة دوننا . فوصف آلهة ب { يعبدون } لنفي أن يكون الله يرضى بعبادة غيره فضلاً عن أن يكون غيره إلها مثله وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام وكانوا في عقائدهم أشتاتاً فمنهم من يجعل الأصنام آلهة شركاء لله ، ومنهم من يزعم أنه يعبدهم ليقربوه من الله زُلْفى ، ومنهم من يزعمهم شفعاء لهم عند الله . فلما نفي بهذه الآية أن يكون جَعل آلهة يُعبدون أبطل جميع هذه التمَحُّلات .
وأجري { آلهة } مجرى العقلاء فوصفوا بصيغة جمع العقلاء بقوله : { يعبدون } . ومثله كثير في القرآن جرياً على ما غلب في لسان العرب إذ اعتقدوهم عقلاء عالمين . وقرأ ابن كثير والكسائي { وسَلْ } بتخفيف الهمزة .