نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ءَالِهَةٗ يُعۡبَدُونَ} (45)

ولما أبطل سبحانه إلهية غيره التي أدى إليها الجهل ، واستمر إلى أن ختم بالعلم الموجب لمعرفة الحق ، فكان التقدير إبطالاً لشبهتهم الوهمية القائلة { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } : فاستحضر جميع ما أوحى إليك وتأمله غاية التأمل ، هل ترى فيه خفاء في الإلهية لشيء دون الله ، عطف عليه قوله نفياً لدليل سمعي كما أشير إليه بقوله { أم آتيناهم كتاباً } { واسأل من أرسلنا } أي على ما لنا من العظمة . ولما كان الممكن تعرفه من آثار الرسل إنما هو لموسى وعيسى ومن بينهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام الحافظ لسنتهم من التوراة والإنجيل والزبور وسفر الأنبياء ، قال مثبتاً للجار المفهم لبعض الزمان : { من قبلك } .

ولما كان أتباعهم قد غيروا وبدلوا فلم تكن بهم ثقة ، عبر بالرسل فقال : { من رسلنا } أي بقراءة أتباعهم لكتبهم التي حرفوا بعضها ، وجعلت كتابك مهيمنا عليها فإنهم إذا قرأوها بين يديك وعرضوها عليك علمت معانيها وفضحت تحريفهم وبينت اتفاق الكتب كلها برد ما ألبس عليهم من متشابهها إلى محكمها ، فالمراد من هذا نحو المراد من آية يونس{ فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك }[ رقم : 94 ] ومن آية الأنبياء{ هذا ذكر من معي وذكر من قبلي }[ رقم : 24 ] مع زيادة الإشارة إلى تحريفهم ، فالمسؤول في الحقيقة القرآن المعجز على لسان الرسول الذي شهدت له جميع الرسل الذين أخذ عليهم العهد بالإيمان به والمتابعة له ، وبهذا التقرير ظهر ضعف قول من قال : إن المراد سؤال الرسل حقيقة لما جمعوا له صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس ليلة الإسراء ، فإنه ليس المراد من هذا إلا تبكيت الكفار من العرب وممن عزهم من أهل الكتاب بقولهم : دينكم خير من دينه وأنتم أهدى سبيلاً منه ، فإنهم إذا أحضروا كتبهم علمت دلالتها القطعية على اختصاصه سبحانه بالعبادة كما بينته في كتابي هذا يرد المتشابه منها إلى المحكم ، وجعلها ابن جرير مثل قوله تعالى

{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }[ النساء : 59 ] وقال : ومعلوم أن معنى ذلك : فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال : فاستغنى بذكر الرسل عن ذكر الكتب . وهو عين ما قلته ، ولو كان المراد حقيقة السؤال وسؤال جميع الرسل لقال " قبلك " بإسقاط " من " ليستغرق الكل - والله أعلم .

ولما ذكر المسؤول مفخماً له بما اقتضته العبارة من الإرسال والإضافة إليه ، ذكر المسؤول عنه بقوله تعالى : { أجعلنا } أي أبحنا وأمرنا ورضينا على ما لنا من العظمة والقدرة التامة ، مما ينافي ذلك ، وقرر حقارة ما سواه بقوله : { من دون } وزاد بقوله : { الرحمن } أي الذي رحمته عمت جميع الموجودات { آلهة } ولما كان قد جعل لكل قوم وجهة يتوجهون في عبادتهم إلهاً ، وشيئاً محسوساً بغلبة الأوهام على الأفهام يشهدونه وكان ربما تعنت به متعنت ، قال محترزاً : { يعبدون } أي من عابد ما بوجه ما .