قوله تعالى : { ولما وقع عليهم الرجز ولما وقع عليهم الرجز } ، أي : نزل بهم العذاب ، وهو ما ذكر الله عز وجل من الطوفان وغيره . وقال سعيد بن جبير : الرجز الطاعون ، وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس ، حتى مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد ، فأمسوا وهو لا يتدافنون .
قوله تعالى : { قالوا } لموسى .
قوله تعالى : { يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي : بما أوصاك ، وقال عطاء : بما نبأك ، وقيل : بما عهد عندك من إجابة دعوتك .
قوله تعالى : { لئن كشفت عنا الرجز } وهو الطاعون .
قوله تعالى : { لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل } . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، ثنا زاهر بن أحمد ، ثنا أبو إسحاق الهاشمي ، ثنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن محمد بن المنكدر ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون ؟ فقال أسامة بن زيد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل و على من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " .
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي : العذاب ، يحتمل أن المراد به : الطاعون ، كما قاله كثير من المفسرين ، ويحتمل أن يراد به ما تقدم من الآيات : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، فإنها رجز وعذاب ، وأنهم كلما أصابهم واحد منها
قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ أي : تشفعوا بموسى بما عهد اللّه عنده من الوحي والشرع ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وهم في ذلك كذبة ، لا قصد لهم إلا زوال ما حل بهم من العذاب ، وظنوا إذا رفع لا يصيبهم غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قَالُواْ يَمُوسَىَ ادْعُ لَنَا رَبّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنّ مَعَكَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولما وقع عليهم الرجز ، ولما نزل بهم عذاب الله ، وحلّ بهم سخطه .
ثم اختلف أهل التأويل في ذلك الرجز الذي أخبر الله أنه وقع بهؤلاء القوم ، فقال بعضهم : كان ذلك طاعونا . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : وأمر موسى قومه من بني إسرائيل ، وذلك بعد ما جاء قومَ فرعون بالاَيات الخمس الطوفان ، وما ذكر الله في هذه الاَية ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال : ليذبح كلّ رجل منكم كبشا ، ثم ليخضب كفه في دمه ، ثم ليضرب به على بابه ، فقالت القبط لبني إسرائيل : لم تجعلون هذا الدم على أبوابكم ؟ فقالوا : إن الله يرسل عليكم عذابا فنسلم وتهلكون ، فقالت القبط : فما يعرفكم الله إلاّ بهذه العلامات ؟ فقالوا : هكذا أمرنا به نبينا . فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا ، فأمسوا وهم لا يتدافنون ، فقال فرعون عند ذلك : ادْعُ لَنا رَبّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرّجزَ وهو الطاعون ، لَنُؤْمِنَنّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ فدعا ربه فكشفه عنهم ، فكان أوفاهم كلهم فرعون ، فقال لموسى : اذهب ببني إسرائيل حيث شئت
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حبّويه الرازي ، وأبو داود الحفري ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير قال حبويه : عن ابن عباس : لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرّجْزَ قال : الطاعون .
وقال آخرون : هو العذاب . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الرجز العذاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرّجْزَ أي العذاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : وَلمّا وَقَع عَلَيْهِمُ الرّجْزُ يقول : العذاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قال : الرجز : العذاب الذي سلّطه الله عليهم من الجراد والقُمّل وغير ذلك ، وكلّ ذلك يعاهدونه ثم ينكثون .
وقد بيّنا معنى الرّجز فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده المغنية عن إعادتها .
وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز ، وهو العذاب والسخط من الله عليهم ، فزعوا إلى موسى بمسألته ربه كشف ذلك عنهم وجائز أن يكون ذلك الرجز كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، لأن كل ذلك كان عذابا عليهم ، وجائز أن يكون ذلك الرجز كان طاعونا . ولم يخبرنا الله أيّ ذلك كان ، ولا صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيّ ذلك كان خبر فنسلم له .
فالصواب أن نقول فيه كما قال جلّ ثناؤه : وَلمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ ولا نتعدّاه إلاّ بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل ، وهو لما حلّ بهم عذاب الله وسخطه ، قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبّكَ بمَا عَهِدَ عِنْدَكَ يقول : بما أوصاك وأمرك به ، وقد بينا معنى العهد فيما مضى لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرّجْزَ يقول : لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه ، لَنُؤْمِنَنّ لَكَ يقول : لنصدقنّ بما جئت به ودعوت إليه ولنقرّنّ به لك ، ولَنُرْسِلَنّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ يقول : ولنخلينّ معك بني إسرائيل فلا نمنعهم أن يذهبوا حيث شاءوا .
الرجز العذاب فالتعريف باللام هنا للعهد أي العذاب المذكور وهو ما في قوله تعالى : { فأرسلنا عليهم الطوفان } إلى قوله { آيات مفصّلات } [ الأعراف : 133 ] والرجز من أسماء الطاعون ، وقد تقدم عند قولهم تعالى : { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء } في سورة البقرة ( 59 ) ، فيجوز أن يراد بالرجز الطاعون أي أصابهم طاعون ألجأهم إلى التضرع بموسى عليه السلام ، فطُوي ذكره للإيجاز ، فالتقدير : وأرسلنا عليهم الرجز ولما وقع عليهم الخ . . . وإنما لم يذكر الرجز في عداد الآيات التي في قوله : { فأرسلنا عليهم الطوفان } [ الأعراف : 133 ] الآية تخصيصاً له بالذكر لأن له نبأ عجيباً فإنه كان ملجئَهم إلى الاعتراف بآيات موسى ووجود ربه تعالى .
وهذا الطاعون هو المَوَتانُ الذي حكي في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج « هكذا يقول الرب إني أخرج نحوَ نصف الليل في وسط مصر فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعونَ الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلْف الرحى وكل بكر بهيمة ثم قالت في الإصحاح الثاني عشر فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر فقام فرعون ليلاً هو وعبيدُه وجميع المصريين فدعَا موسى وهارونَ ليْلاً وقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعاً واذهبوا اعبدوا ربكم واذهبوا وباركوني » الخ . . . قيل مات سبعون ألف رجل في ذلك اليوم من القبط خاصة ، ولم يصب بني إسرائيل منه شيء .
وليس قولهم : { ادع لنا ربك } بإيمان بالله ورسالة موسى ، ولكنهم كانوا مشركين وكانوا يجوزون تعدد الآلهة واختصاص بعض الأمم وبعض الأقطار بآلهة لهم ، فهم قد خامرهم من كثرة ما رأوا من آيات موسى أن يكون لموسى رب له تصرف وقدرة . وأنه أصابهم بالمصائب لأنهم أضروا عبيده ، فسألوا موسى أن يكف عنهم ربه ويكون جزاؤه الإذن لبني إسرائيل بالخروج من مصر ليعبدوا ربهم ، كما حكت التوراة في الإصحاح الثاني عشر عن فرعون ، « فقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعاً واذهبوا اعبدوا ربكم » وقد كان عبدة الأرباب الكثيرين يجوز أن تغلب بعض الأرباب على بعض مثل ما يحدث بين الملوك كما تدل عليه أساطير ( الميثولوجيا ) اليونانية ، وقصة الياذة ( هُومَيْروس ) ، فبدَا لفرعون أن وَجْه الفصْل مع بني إسرائيل أن يعبدوا ربهم في أرض غير أرض مصر التي لها أرباب أخر ولذلك قال { ربك } ولم يقل ربنا .
وحذف متعلق فعل الدعاء لظهور المراد ، أي ادع لنا ربك بأن يكف عنا ، كما دل عليه قوله بعدُ { لئن كشفت عنا الرجز } ووقع في التوراة في الإصحاح الثاني عشر قول فرعون لموسى وهارون ( واذهبوا وباركوني أيضاً ) .
وقد انبرم حال موسى على فرعون فلم يدر أهو رسول من إله غير آلهة القبط فلذلك قال له { بما عهد عندك } ، أي : بما عرفك وأودع عندك من الأسرار ، وهذه عبارة متحير في الأمر ملتبسة عليه الأدلة .
والباء في { بما عهد عندك } لتعدية فعل الدعاء . و ( ما ) موصولة مبهمة ، أي ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عند ربك ، وهذا يقتضي أنهم جوزوا أن يكون موسى مبعوثاً من رب له بناء على تجويزهم تعدد الآلهة .
وجملة { لَئن كشفتَ عنا الرجز } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن طلبهم من موسى الدعاء بكشف الرجز عنهم مع سابقيّة كفرهم به يثير سؤال موسى أن يقول : فما الجزاء على ذلك .
واللام موطئة للقسم ، وجملة : { لنؤمنّن } جواب القسم .
ووعدُهم بالإيمان لموسى وعد بالإيمان بأنه صادق في أنه مرسل من رب بني إسرائيل ليخرجهم من أرض مصر ، وليس وعداً باتباع الدين الذي جاء به موسى عليه السلام ، لأنهم مكذبون به في ذلك وزاعمون أنه ساحر يريد إخراج الناس من أرضهم ولذلك جاء فعل الإيمان متعلقاً بموسى لا باسم الله ، وقد جاء هذا الوعد على حسب ظنهم أن الرب الذي يدعو إليه موسى هو رب خاص به وبقومه ، كما دل عليه قوله : { ادع لنا ربك بما عهد عندك } وقد وضحوا مرادهم بقولهم : { ولنرسلن معك بني إسرائيل } .