285- إن ما أُنزل إلى الرسول - محمد - هو الحق من عند الله ، وقد آمن به وآمن معه المؤمنون كل منهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهم يسوُّون بين رسل الله في الإيمان بهم وتعظيمهم قائلين : لا نفرق بين أحد من رسله ، وأكدوا إيمانهم القلبي بقولهم اللساني متجهين إلى الله في خطابهم : ربنا سمعنا تنزيلك المحكم واستجبنا لما فيه ، فامنحنا اللهم مغفرتك ، وإليك - وحدك - المصير والمرجع .
قوله تعالى : { آمن الرسول } . أي صدق .
قوله تعالى : { بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله } . يعني كل واحد منهم ، ولذلك وحد الفعل .
قوله تعالى : { وملائكته وكتبه ورسله } . قرأ حمزة والكسائي وكتابه ، على الواحد يعني القرآن ، وقيل معناه الجمع ، وإن ذكر بلفظ التوحيد كقوله تعالى : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ) وقرأ اآخرون وكتبه بالجمع كقوله تعالى : ( وملائكته وكتبه ورسله ) .
قوله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } . فنؤمن ببعض ، ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى ، وفيه إضمار تقديره : يقولون لا نفرق ، وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء فيكون خبراً عن الرسول ، أو معناه لا يفرق الكل وإنما قال بين أحد ولم يقل بين آحاد ، لأن الأحد يكون للواحد والجمع ، قال الله تعالى : ( فما منكم من أحد عنه حاجزين ) .
قوله تعالى : { وقالوا سمعنا } . قولك .
قوله تعالى : { وأطعنا } . أمرك .
روى عن حكيم ، عن جابر رضي الله عنهما : أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية : " إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه " ، فسأل بتلقين الله تعالى فقال :
قوله تعالى : { غفرانك } . وهو نصب على المصدر أي اغفر غفرانك . أو على المفعول به ، أي نسألك غفرانك . قوله تعالى : { ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . ظاهر الآية قضاء الحاجة ، وفيها إضمار السؤال كأنه قال : وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا ، وأجاب أي لا يكلف الله نفساً إلا وسعها أي طاقتها ، والوسع : اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ، واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس الذي ذكر في قوله تعالى ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ) كما ذكرنا .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : هم المؤمنون خاصة ، وسع عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم فيه إلا ما يستطيعون ، كما قال الله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقال الله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
يخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه ، وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك المغفرة ، فأخبر أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهذا يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه ، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل ، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص ، ويتضمن الإيمان بالملائكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيلا ، وعلى الإيمان بجميع الرسل والكتب ، أي : بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي ، وأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله ، بل يؤمنون بجميعهم ، لأنهم وسائط بين الله وبين عباده ، فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله { وقالوا سمعنا } ما أمرتنا به ونهيتنا { وأطعنا } لك في ذلك ، ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا ، ولما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام ، قالوا { غفرانك } أي : نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب ، ومحو ما اتصفنا به من العيوب { وإليك المصير } أي : المرجع لجميع الخلائق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر .
{ آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
يعني بذلك جل ثناؤه : صدّق الرسول ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقرّ { بما أُنْزِلَ إِلَيْهِ } يعني بما أوحي إليه من ربه من الكتاب ، وما فيه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وأمر ونهي ، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عليه قال : «يَحقّ لَهُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال : «وَيَحِقّ لَهُ أنْ يُؤمِنَ » .
وقد قيل : إنها نزلت بعد قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه ، شقّ عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَعَلّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ! » فقالوا : بل نقول : سمعنا وأطعنا ! فأنزل الله لذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } . يقول : وصدّق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله الاَيتين . وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل .
واختلف القراء في قراءة قوله : «وكتبه » ، فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض قراء أهل العراق : { وكُتُبِهِ } على وجه جمع الكتاب على معنى : والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسوله . وقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة : «وكتابه » بمعنى : والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته ، وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك وكتابه ، ويقول : الكتاب أكثر من الكتب . وكان ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله : { وَالعَصْرِ إِنّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } بمعنى : جنس الناس وجنس الكتاب ، كما يقال : ما أكثر درهم فلان وديناره ، ويراد به جنس الدراهم والدنانير . وذلك وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا ، فإن الذي هو أعجب إليّ من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع ، لأن الذي قبله جمع ، والذي بعده كذلك ، أعني بذلك : «وملائكته وكتبه ورسله » ، فإلحاق الكتب في الجمع لفظا به أعجب إليّ من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد ، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده ، وبمعناه .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } .
وأما قوله : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فإنه أخبر جلّ ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك . ففي الكلام في قراءة من قرأ : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } بالنون متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عنه ، وذلك المتروك هو «يقولون » .
( وتأويل الكلام : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يقولون : لا نفرّق بين أحد من رسله . وترك ذكر «يقولون » لدلالة الكلام عليه ، كما ترك ذكره في قوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبْرْتُمْ } بمعنى : يقولون سلام . وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدّمين : «لا يُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » بالياء ، بمعنى : والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا يفرّق الكل منهم بين أحد من رسله ، فيؤمن ببعض ، ويكفر ببعض ، ولكنهم يصدقون بجميعهم ، ويقرّون أن ما جاءوا به كان من عند الله ، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته ، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقرّوا بموسى وكذّبوا عيسى ، والنصارى الذين أقرّوا بموسى وعيسى وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجحدوا نبوّته ، ومن أشبههم من الأمم الذين كذّبوا بعض رسل الله ، وأقّروا ببعضه . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } كما صنع القوم ، يعني بني إسرائيل ، قالوا : فلان نبيّ ، وفلان ليس نبيا ، وفلان نؤمن به ، وفلان لا نؤمن به .
والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } لأنها القراءة التي قامت حجة بالنقل المستفيض الذي يمتنع مع التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط ، يعني ما وصفنا من يقولون : لا نفرّق بين أحد من رسله . ولا يعترض بشاذّ من القراءة على ما جاءت به الحجة نقلاً ورواية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : وقال الكلّ من المؤمنين : { سَمِعْنا } قول ربنا ، وأمره إيانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه ، { وَأَطَعْنا } : يعني أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له : وقوله : { غُفْرَانَكَ رَبّنا } يعني : وقالوا غفرانك ربنا ، بمعنى : اغفر لنا ، ربنا غفرانك ، كما يقال : سبحانك ، بمعنى نسبحك سبحانك . وقد بينا فيما مضى أن الغفران والمغفرة : الستر من الله على ذنوب من غفر له ، وصفحه له عن هتك ستره بها في الدنيا والاَخرة ، وعفوه عن العقوبة عليه . وأما قوله : { وَإلَيْكَ المَصِيرُ } فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا : وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر لنا ذنوبنا . )
فإن قال لنا قائل : فما الذي نصب قوله : { غُفْرَانَكَ } ؟ قيل له : وقوعه وهو مصدر موقع الأمر ، وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر ، وأدّت عن معنى الأمر نصبتها ، فيقولون : شكرا لله يا فلان ، وحمدا له ، بمعنى : اشكر الله واحمده ، والصلاةَ الصلاةَ : بمعنى صلوا . ويقولون في الأسماء : اللّهَ اللّهَ يا قوم . ولو رفع بمعنى هو الله ، أو هذا الله ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الاَمر كان جائزا ، كما قال الشاعر :
إنّ قَوْما مِنْهُمْ عُمَيْرٌ وأشْبا *** هُ عُمَيْرٍ ومِنْهُمُ السّفّاحُ
لَجَدِيرُونَ بالوَفاءِ إذَا قا *** لَ أخو النّجدَةِ السّلاحُ السّلاحُ
ولو كان قوله : { غُفْرَانَكَ رَبّنَا } جاء رفعا في القراءة لم يكن خطأ ، بل كان صوابا على ما وصفنا .
وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من الله عليه وعلى أمته ، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم : إن الله عزّ وجلّ قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء ، فسلْ ربك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم بن جابر ، قال : لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ باللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَيْكَ المَصِير } قال جبريل : إن الله عزّ وجلّ قد أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه ! فسأل : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } . . . إلى آخر السورة .
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 )
سبب هذه الآية( {[2854]} ) أنه لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية التي قبلها . وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ثم تقرر الأمر على أن { قالوا سمعنا وأطعنا } ، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية ، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا ، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله أعاذنا الله من نقمه ، و { آمن } معناه صدق ، و { الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم ، و { بما أنزل إليه من ربه } هو القرآن وسائر ما أوحي إليه( {[2855]} ) ، من جملة ذلك هذه الآية( {[2856]} ) التي تأولوها شديدة الحكم ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه قال : ويحق له أن يؤمن( {[2857]} ) ، وقرأ ابن مسعود «وآمن المؤمنون » ، و { كل } لفظة تصلح للإحاطة ، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام( {[2858]} ) ، ولما وردت هنا بعد قوله { والمؤمنون } دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر .
والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه .
والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم .
والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، أو ما أخبر هو به ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «وكتبه » على الجمع ، وقرؤوا في التحريم و «كتابه »( {[2859]} ) على التوحيد ، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم «وكتبه » على الجمع ، وقرأ حمزة والكسائي «وكتابه » على التوحيد فيهما ، وروى حفص عن عاصم ها هنا وفي التحريم «وكتبه » مثل أبي عمرو ، وروى خارجة عن نافع مثل ذلك ، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء ، فمن جمع أراد جمع كتاب ، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى ، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي وهو كما قالوا : نسج اليمن( {[2860]} ) ، وقال أبو علي في صدر كلامه : أما الإفراد في قول من قرأ «وكتابه » فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير ، كقوله تعالى : { وادعوا ثبوراً كثيراً } [ الفرقان : 14 ] ونحو ذلك ، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، كقولهم : كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك( {[2861]} ) ، فإن قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه مضافة ، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل :{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }( {[2862]} ) [ إبراهيم : 34 ] وفي الحديث منعت العراق درهمها وقفيزها( {[2863]} ) ، فهذا يراد به الكثير كما يراد بما فيه لام التعريف ، ومنه قول ابن الرقاع :
يَدَعُ الْحَيَّ بالعشيِّ رَعَاهَا . . . وَهُم عَنْ رَغِيفِهِمْ أَغْنِيَاءُ( {[2864]} )
ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، وقرأت الجماعة «ورسُله » بضم السين ، وكذلك «رسُلنا » و «رسُلكم » و «رسُلك »( {[2865]} ) إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف «رسلنا » و «رسلكم » ، وروي عنه في «رسلك » التثقيل والتخفيف ، قال أبو علي من قرأ «على رسلك » بالتثقيل فذلك أصل الكلمة ، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب ، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل ، وقرأ يحيى بن يعمر «وكتْبه ورسْله » بسكون التاء والسين ، وقرأ ابن مسعود «وكتابه ولقائه ورسله » ، وقرأ جمهور الناس «لا نفرق » بالنون ، والمعنى يقولون لا نفرق( {[2866]} ) ، وقرأ سعيد بن جبير ويحيي بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب «لا يفرق » بالياء ، وهذا على لفظ { كل } ، قال هارون وهي في حرف ابن مسعود «لا يفرقون » ، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
وقوله تعالى : { وقالوا سمعنا وأطعنا } مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر ، والطاعة قبول الأوامر ، و { غفرانك } مصدر كالكفران والخسران ، ونصبه على جهة نصب المصادر ، والعامل فيه فعل مقدر ، قال الزجّاج تقديره اغفر غفرانك ، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك ، { وإليك المصير } إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال له جبريل : يا محمد إن الله قد أجل( {[2867]} ) الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تعطه ، فسأل إلى آخر السورة( {[2868]} ) .
قال الزجاج : « لما ذكر الله في هذه السورة أحكاماً كثيرةً ، وقصصاً ، ختمها بقوله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } تعظيماً لنبيّه صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وتأكيداً وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل » . يعني : أنّ هذا انتقال من المواعظ ، والإرشاد ، والتشريع ، وما تخلّل ذلك : ممّا هو عون على تلك المقاصد ، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرّع عليه العمل ؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب ، يقتضي الامتثالَ لما جاء به من عمل . فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم ، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر : هو كالحاصل والفذلكة ، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض . وورد في أسباب النزول أنّ قوله : { آمن الرسول } يرتبط بقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } [ البقرة : 284 ] كما تقدم آنفاً .
وأل في الرسول للعد . وهو عَلَم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول قال تعالى : { وهمّوا بإخراج الرسول } [ التوبة : 13 ] . و { المؤمنون } معطوف على { الرسول } ، والوقف عليه .
والمؤمنون هنا لَقَب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله : { آمن } فائدةٌ ، مع أنّه لا فائدةَ في قولك : قامَ القائمون .
وقوله : { كل آمن بالله } جمع بعد التفصيل ، وكذلك شأن ( كلَ ) إذا جاءت بعد ذكر متعدّد في حُكْم ، ثم إرادة جمعه في ذلك ، كقول الفضل بن عباس اللَّهَبِي ، بعد أبيات :
كُلٌّ له نِيَّةٌ في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتَقْلُونا
وإذ كانت ( كلّ ) من الأسماء الملازمة الإضافة فإذا حذف المضاف إليه نوّنت تنوينَ عوض عن مفرد كما نبّه عليه ابن مالك في « التسهيل » . ولا يعكر عليه أنّ ( كل ) اسم معرب لأنّ التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه . فمن جوّز أن يكون عَطْفُ { المؤمنون } عطفَ جملة وجعل { المؤمنون } مبتدأ وجعل { كلٌّ } مبتدأ ثانياً { وآمن } خبره ، فقد شذّ عن الذوق العربي .
وقرأ الجمهور { وكتبه } بصيغة جمع كتاب ، وقرأه حمزة ، والكسائي : وكِتَابِه ، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب . فيكون مساوياً لقوله : { وكتبه } ، إذ المراد الجنس ، والحقُّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس ، ألا تراهم يقولون : إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري ، ولذلك يقال : إذا دَخلت ألْ الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية ، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين ، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام ، وعن ابن عباس أنّه قال ، لما سئل عن هذه القراءة : « كتابِه أكثر من كُتبِه أو الكتاب أكثر من الكتب » فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس ، لاحتمال إرادة جنس الجموع ، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس ، ولهذا قال صاحب « المفتاح » « استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع » .
والحقُّ أنّ هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات . وأنّ كلام ابن عباس إن صح نقله عنه فتأويله أنّه أكْثَر لمساواته له معنى ، مع كونه أخصر لفظاً ، فلعلّه أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى .
وقوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارَك ، وهو يحتمل الالتفات : بأن يكون من مقول قول محذوففٍ دل عليه السياق وعطف { وقالوا } عليه . أو النون فيه للجلالة أي آمَنُوا في حَال أنّنا أمرناهم بذلك ، لأنّنا لا نفرّق فالجملة معترضة . وقيل : هو مقول لقول محذوف دل عليه آمَن ؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وقول . وقرأه يعقوب بالياء : على أنّ الضمير عائد على { كلُّ آمن بالله } .
والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق : بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض .
وقوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى : { لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] .
{ وقالوا سمعنا وأطعنا } عطف على { آمن الرسول } والسمع هنا كناية عن الرضا ، والقبول ، والامتثال ، وعكسه لا يَسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة :
* تَناذَرَهَا الرّاقُون مِنْ سُوءِ سَمْعِها *
أي عدم امتثالها للرُّقْيَا . والمعنى : إنَّهم آمنوا ، واطمأنّوا وامتثلوا ، وإنّما جيء بلفظ الماضي ، دون المضارع ، ليدلوا على رسوخ ذلك ؛ لأنّهم أرادوا إنشاء القبول والرضا ، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعْت .
وغفرانك نُصب على المفعول المطلق : أي اغفِرْ غفرانك ، فهو بدل من فعله . والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافاً بالبعث ، وجعل منتهياً إلى الله لأنّه منتهٍ إلى يوم ، أو عالَم ، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة . ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان . كأنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين ، ثم صاروا إلى الله ، وهذا كقوله تعالى : { ففروا إلى اللَّه } [ الذاريات : 50 ] . وجعل المصير إلى الله تمثيلاً للمصير إلى أمره ونهيه : كقوله : { ووجد اللَّه عنده فوفاه حسابه } [ النور : 39 ] وتقديم المجرور لإفادة الحصر : أي المصير إليك لا إلى غيرك ، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته ، وهو أنّهم عالِمون بأنّهم صائرون إليه ، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال .