الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (285)

قوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مرفوعٌ بالفاعليةِ عطفاً على " الرسول " فيكونُ الوقفُ هنا ، ويَدُّلُّ على صحةِ هذا ما قرأ به أمير المؤمنين عليُّ ابن أبي طالب : " وآمن المؤمنون " ، فَأَظْهَر الفعلَ ، ويكون قولُه : " كلُّ آمَن " جملةً من مبتدأٍ وخبر يَدُلُّ على أنَّ جميعَ مَنْ تقدَّم ذكرُه آمَنَ بما ذكر . والثاني : أن يكون " المؤمنون " مبتدأً ، و " كلٌّ " مبتدأٌ ثانٍ ، و " آمن " خبرٌ عَنْ " كل " وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأولِ ، وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه ، وهو محذوفٌ تقديرُه : " كلُّ منهم " وهو كقولهم : " السَّمْنُ منوانِ بدرهم " تقديرُه : منوانِ منه . قال الزمخشري : " والمؤمنون إْن عُطِفَ على الرسول كان الضميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في " كل " راجعاً إلى " الرسول " و " المؤمنون " أي : كلهم آمن بالله وملائكتِه وكتبهِ ورسلِه من المذكورين ووُقِفَ عليه ، وإن كان مبتدأ كان الضميرُ للمؤمنين " .

فإن قيل : هل يجوزُ أَنْ يكون " المؤمنون " مبتدأ ، و " كلٌ " تأكيدٌ له ، و " آمن " خبرُ هذا المبتدأ ، فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنهم نَصُّوا على أنَّ " كُلاَّ " وأخواتِها لا تَقَعُ تأكيداً للمعارف إلا مضافةً لفظاً لضميرِ الأول ، ولذلك رَدُّوا قولَ مَنْ قال : " إنَّ كُلاَّ في قراءة من قرأ : { إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ } [ غافر : 48 ] تأكيدٌ لاسم إنَّ .

وقرأ الأخَوَان هنا " وكتابِه " بالإِفراد والباقون بالجمعِ . وفي سورة التحريم قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم بالجمعِ والباقون بالإِفراد . فتلخَّص من ذلك أنَّ الأخوين يقرآن بالإِفراد في الموضعين ، وأنَّ أبا عمرو وحفصاً يقرآن بالجمعِ في الموضعين ، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصم قرؤوا بالجمعِ/ هنا وبالإِفرادِ في التحريم .

فأمَّا الإِفرادُ فإنه يُراد به الجنسُ لا كتابٌ واحدٌ بعينِه ، وعن ابن عباس : " الكتاب أكثر من الكتب " قال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمع ؟ قلت : لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحدات الجنس كلِّها لم يَخْرُجْ منه شيء ، وأمَّا الجمعُ فلا يَدْخُل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجموع " . قال الشيخ : " وليس كما ذكر لأنَّ الجمعَ متى أُضِيف أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [ الجنسية ] صارَ عامَّاً ، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ ، فلو قال : " أَعْتَقْتُ عبيدي " لشمل ذلك كلَّ عبدٍ له ، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم في الواحدِ سواءً كانت فيه الألفُ واللامُ أو الإضافةُ ، بل لا يُذْهَبُ إلى العموم في الواحدِ إلاَّ بقرينةٍ لفظيةٍ كَأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمعِ نحو : { إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ العصر : 2 ] " أهلك الناسَ الدينارُ الصُّفر والدرهم البيض " أو قرينةٍ معنويةٍ نحو : " نيَّةُ المؤمنِ أبلغُ مِنْ عملِه " وأقصى حالِهِ أن يكونَ مثلَ الجمعِ العامِّ إذا أريد به العمومُ " قلت : للناس خلافٌ في الجمعِ المحلَّى بأَلْ أو المضافِ : هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ أم إلى أعمَّ من ذلك ، وتحقيقُه في علم الأصول .

قال الفارسي : " هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر وإنْ أريدَ بها الكثيرُ كقوله تعالى : { وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [ الفرقان : 24 ] ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ نحو : كَثُرَ الدينارُ والدرهمُ ، ومجيئها بالألف واللامِ أكثرُ من مجيئها مضافةً ، ومن الإِضافةِ :

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] وفي الحديث : " مَنَعَتِ العراقُ درهمَها وقَفِيزها " يُراد به الكثيرُ ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريفُ " . قال الشيخ : " انتهى ملخصاً ، ومعناه أنَّ المفردَ المحلَّى بالألفِ واللامِ يَعُمُّ أكثرَ من المفردِ المضافِ " .

قلت : وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك البتةَ ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ مُعَرَّفةً بأل أكثرُ من مجيئها مضافةً ، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ .

وقيل : المرادُ بالكتابِ هنا القرآن فيكونُ المرادُ الإِفرادَ الحقيقي . وأمَّا الجمعُ فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ ، إذ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ ، وأيضاً فإنَّ فيه مناسبةً لِما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ .

ومَنْ قَرَأ بالتوحيدِ في التحريم فإنما أراد به الإِنجيلَ كإرادة القرآن هنا ، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجنسُ . وقد حَمَل على لفظ " كُل " في قوله : " آمن " فَأَفْرَدَ الضميرَ وعلى معناه فجمع في قوله : " وقالوا سَمِعْنَا " . قال الزمخشري : " ووحَّد ضمير " كل " في " آمَنَ " على معنى : كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ كقولِه تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ }

[ النمل : 87 ] .

وقرأ يَحْيى بن يَعْمر - ورُويت عن نافع - " وكُتْبِهِ ورُسْلِهِ " بإسكانِ العينِ فيهما . ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكينُ سين " رُسْله " .

قوله : { لاَ نُفَرِّقُ } هذه الجملةُ منصوبةٌ بقولٍ محذوف تقديرُه : يقولون لا نُفرِّق ، ويجوز أن يكونَ التقديرُ : يقول ، يعني يجوزُ أَنْ يراعى لفظُ " كل " تارةً ومعناها أخرى في ذلك القولِ المقدرِ ، فَمَنْ قَدَّر " يقولون " راعى معناها ، وَمَنْ قدَّر " يقول " راعى لفظَها ، وهذا القَولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه خبرٌ بعد خبرٌ ، قاله الحوفي .

والعامَّةُ على " لا نفرِّقُ " بنون الجمعِ . وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب ، ورُويت عن أبي عمرو أيضاً : " لا يُفَرِّقُ " بياء الغيبة حملاً على لفظ " كل " .

وروى هارون أن في مصحف عبد الله " لا يُفَرِّقون " بالجمعَ حَمْلا على معنى " كل " ، وعلى هاتين القراءتين فلا حاجةَ إلى إضمارِ قولٍ ، بل الجملةُ المنفيةُ بنفسِها : إمَّا في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وإمَّا في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً كما تقدَّم في ذلك القولِ المضمرِ .

قوله : { بَيْنَ أَحَدٍ } متعلِقٌ بالتفريقِ ، وأُضيف " بين " إلى أحد وهو مفرد ، وإنْ كان يقتضي إضافَتَه إلى متعدد نحو : " بين الزيدين " أو " بين زيد وعمرو " ، ولا يجوزُ " بين زيد " ويَسْكُت : إمَّا لأنَّ " أحداً " في معنى العموم وهو " أحد " الذي لا يُسْتعمل إلا في الجَحْد ويُراد به العمومُ ، فكأنه قيل : لا نفرِّقُ بين الجميعِ من الرسل . قال الزمخشري : كقوله : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] ، ولذلكَ دَخَل عليه " بين " وقال الواحدي : " وبين " تقتضي شيئين فصاعداً ، وإنما جاز ذلك مع " أحد " وهو واحدٌ في اللفظِ ، لأنَّ " أحداً " يجوزُ أَنْ يُؤَدَّى عن الجميعِ ، قال الله تعالى : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } وفي الحديث : " ما أُحِلَّتْ الغنائمُ لأحدٍ سودِ الرؤوسِ غيرِكم " يعني فوصَفَه بالجمع ، لأنَّ المرادَ به جمعٌ . قال : " وإنَّما جازَ ذلكَ لأن " أحداً " ليس كرجل يجوز أن يُثَنَّى ويُجْمع ، وقولُك : " ما يفعل هذا أحدٌ " تريد ما يفعلُه الناسُ كلُّهم ، فلمٌا كان " أحد " يؤدَّى عن الجميع جاز أَنْ يُسْتعمل معه لفظُ " بَيْن " وإنْ كان لا يجوز أَنْ تقولَ : " لا نفرِّقُ بين رجلٍ منهم " .

قلت : وقد رَدَّ بعضُهم هذا التأويلَ فقال : " وقيل إنَّ " أحداً " بمعنى جميع ، والتقديرُ : بين جميعِ رسلهِ " ويَبْعُدُ عندي هذا التقديرُ ، لأنه لا ينافي كونَهم مفرِّقين بين بعضِ الرسلِ ، والمقصودُ بالنفي هو هذا ؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا يُفَرِّقون بين كلَّ الرسلِ بل البعضُ . وهو محمد صلى الله عليه وسلم فَثَبَت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ ، بل معنى الآية : لا نفرِّق بين أحدٍ من رسلهِ وبين غيرهِ في النبوة ، وهذا وإنْ كان في نفسه صحيحاً إلا أنَّ القائلين بكونِ " أحد " بمعنى جميع ، وإنما يريدون في العمومِ المُصَحِّح لإِضافة " بين " إليه/ ، ولذلك يُنَظِّرونه بقولِه تعالى : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } وبقوله :

إذا أمورُ الناسِ دِيكَتْ دُوْكاً *** لا يَرْهَبُون أحداً رَأَوْكا

فقال : " رَأَوْكَ " اعتباراً بمعنى الجميعِ المفهومِ من " أحد " .

وأمَّا لأن ثَمَّ معطوفاً محذوفاً لدلالةِ المعنى عليه ، والتقديرُ : " لا نفرِّقُ بين أحدٍ من رسلهِ وبين أحدٍ ، وعلى هذا فأحد هنا ليس الملازمَ للجحدِ ولا همزتُه أصليةٌ بل هو " أحد " الذي بمعنى واحد وهمزتُه بدلٌ من الواو ، وحَذْفُ المعطوفِ كثيرٌ جداً [ نحو ] : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ، [ وقوله ] :

فما كانَ بين الخيرِ لو جاءَ سالماً *** أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ

أي : بينَ الخيرِ وبيني .

و " مِنْ رسله " في محلِّ جرٍ لأنه صفةٌ ل " أحد " ، و " قالوا " عطفٌ على " آمَنَ " ، وقد تقدَّم أنه حَمَل على معنى " كُل " .

قوله : { غُفْرَانَكَ } منصوبٌ : إمَّا على المصدريةِ . قال الزمخشري : " منصوبٌ بإضمارِ فعلِه ، يقال : " غفرانَك لا كُفْرانَك " أي : نَسْتغفرك ولا نَكْفرك " فقدَّره جملةً خبريةً ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه ، إنما مذهبُه تقديرُ ذلك بجملةٍ طلبية كأنه قيل : " اغفْر غفرانَك " . ونَقَلَ ابنُ عطيَة هذا قولاً عن الزجاج ، والظاهر أنَّ هذا من المصادرِ اللازمِ إضمارُ عاملِها لنيابتِها عنه ، وقد اضطربَ فيها كلامُ ابن عصفور ، فَعَدَّها تارةً مع ما يلزمُ فيه إضمارُ الناصبِ نحو : " سبحانَ الله ورَيْحَانَه " ، و " غفرانَك لا كفرانكَ " ، وتارةً مع ما يجوزُ إظهارُ عاملهِ . والطلبُ في هذا البابِ أكثرُ ، وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في أولِ الفتحة .

والمصير : اسمُ مصدرٍ مِنْ صارَ يصير أي : رَجَعَ ، وقد تقدَّم لك في قوله :

{ الْمَحِيضِ } [ البقرة : 222 ] أنَّ في المَفْعِل من الفعلِ المعتلِّ العينِ بالياءِ ثلاثةَ مذاهبَ وهي : جريانُه مَجْرَى الصحيح ، فيُبْنى اسمُ المصدرِ منه على مَفْعَل بالفتح ، والزمانُ والمكانُ بالكسرِ نحو : ضَرَبَ يَضْرِبَ مَضْرِباً ، أو يُكْسَرُ مطلقاً ، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماعِ فلا يَتَعَدَّى وهو أعدلُهَا ، ويُطلَق المصيرُ على المعنى ، ويُجْمَعُ على مُصْران كرغيفَ ورُغْفان ، ويُجْمَع مُصْران على مَصارين .