فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (285)

قوله : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن ربّهِ } أي : بِجَمِيع ما أنزل الله : { والمؤمنون } عطف على الرسول ، وقوله : { كُلٌّ } أي : من الرسول والمؤمنين { آمن بالله } ويجوز أن يكون قوله : { والمؤمنون } مبتدأ . وقوله : { كُلٌّ } مبتدأ ثان . وقوله : { آمن بالله } خبر المبتدأ الثاني ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأوّل . وأفرد الضمير في قوله : { آمن بالله } مع رجوعه إلى كل المؤمنين ، لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع ، كما اعتبر ذلك في قوله تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } [ النمل : 87 ] . قال الزجاج لما ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض الصلاة ، والزكاة ، وبين أحكام الحج ، وحكم الحيض ، والطلاق ، والإيلاء ، وأقاصيص الأنبياء ، وبين حكم الربا ، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله : { للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك ، فقال { آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن ربّهِ والمؤمنون } أي : صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها ، وكذلك المؤمنون كلهم صدّقوا بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، وقيل : سبب نزولها الآية التي قبلها . وقد تقدّم بيان ذلك .

قوله : { وَمَلَئِكَتِهِ } أي : من حيث كونهم عباده المكرّمين المتوسطين بينه ، وبين أنبيائه في إنزال كتبه ، وقوله : { وَكُتُبِهِ } لأنها المشتملة على الشرائع التي تَعبَّد بها عباده . وقوله : { وَرُسُلِهِ } لأنهم المبلغون لعباده ما نُزَّل إليهم . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر ، وكتبه بالجمع . وقرءوا في التحريم ، و " كتابه " . وقرأ ابن عباس هنا ، و " كتابه " ، وكذلك قرأ حمزة ، والكسائي ، وروى عنه أنه قال : الكتاب أكثر من الكتب . وبينه صاحب الكشاف ، فقال : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ، والجنسية قائمة في وجدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع ، فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع . انتهى . ومن أراد تحقيق المقام ، فليرجع إلى شرح التلخيص المطوّل عند قول صاحب التلخيص «واستغراق المفرد أشمل » . وقرأ الجمهور { ورسُله } بضم السين . وقرأ أبو عمرو ، بتخفيف السين . وقرأ الجمهور { لا نفرّق } بالنون . والمعنى : يقولون : لا نفرق . وقرأ سعيد بن جبير ، ويحيى بن يعمر ، وأبو زرعة ، وابن عمر ، وابن جرير ، ويعقوب «لا يفرق » بالياء التحتية . وقوله : { بَيْنَ أَحَدٍ } ولم يقل بين آحاد ، لأن الأحد يتناول الواحد ، والجمع ، كما في قوله تعالى : { فَمَا مِنكُم منْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين } [ الحاقة : 47 ] فوصفه بقوله : { حاجزين } لكونه في معنى الجمع ، وهذه الجملة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال ، وأن تكون خبراً آخر لقوله : { كُلٌّ } . وقوله : { مِن رُسُلِهِ } أظهر في محل الإضمار للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة في الحكم ، أو الإشعار بعلة عدم التفريق بينهم .

وقوله : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } هو : معطوف على قوله : { آمن } وهو : وإن كان للمفرد ، وهذا للجماعة ، فهو جائز نظراً إلى جانب المعنى ، أي : أدركناه بأسماعنا ، وفهمناه ، وأطعنا ما فيه ؛ وقيل : معنى سمعنا : أجبنا دعوتك . قوله : { غُفْرَانَكَ } مصدر منصوب بفعل مقدّر ، أي : اغفر غفرانك . قاله الزجاج ، وغيره ، وقدّم السمع ، والطاعة على طلب المغفرة ؛ لكون الوسيلة تتقدّم على المتوسل إليه .

/خ286