{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } سبب نزولها أنه لما نزل : { وإن تبدوا ما في أنفسكم } الآية أشفقوا منها ، ثم تقرر الأمر على أن { قالوا سمعنا وأطعنا } فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، فمدحهم الله وأثنى عليهم ، وقدّم ذلك بين يدي رفقه بهم ، وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم ، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى ، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من : ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء ، إذ { قالوا سمعنا وأطعنا } وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله ، أعاذنا الله تعالى من نقمه .
انتهى هذا ، وهو كلام ابن عطية .
وظهر بسبب النزول مناسبة هذه الآية لما قبلها ، ولما كان مفتتح هذه السورة بذكر الكتاب المنزل ، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب ، وبما أنزل إلى الرسول وإلى من قبله ، كان مختتمها أيضاً موافقاً لمفتتحها .
وقد تتبعت أوائل السور المطولة فوجدتها يناسبها أواخرها ، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء ، وسأبين ذلك إن شاء الله في آخر كل سورة سورة ، وذلك من أبدع الفصاحة ، حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله ، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم ، يكون أحدهم آخذاً في شيء ، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر ، ثم إلى آخر ، هكذا طويلاً ، ثم يعود إلى ما كان آخذاً فيه أولاً .
ومن أمعن النظر في ذلك سهل عليه مناسبة ما يظهر ببادىء النظم أنه لا مناسبة له ، فبين تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال المروزي : { آمن الرسول } قال الحسن ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن عباس في رواية : أن هاتين الآيتين لم ينزل بهما جبريل ، وسمعهما صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بلا واسطة ، والبقرة مدنية إلاَّ هاتين الآيتين .
وقال ابن عباس في رواية أخرى ، وابن جبير ، والضحاك ، وعطاء : إن جبريل نزل عليه بهما بالمدينة ، وهي ردّ على من يقول : إن شاء الله في إيمانه ، لأن الله تعالى شهد بإيمان المؤمنين ، فالشك فيه شك في علم الله تعالى .
والألف واللام في : الرسول ، هي للعهد ، وهو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كثر في القرآن تسميته من الله بهذا الاسم الشريف ، وما أنزل إليه من ربه شامل لجميع ما أنزل إليه من الله تعالى : من العقائد ، وأنواع الشرائع ، وأقسام الأحكام في القرآن ، وفي غيره .
آمن بأن ذلك وحي من الله وصل إليه ، وقدّم الرسول لأن إيمانه هو المتقدّم وإيمان المؤمنين متأخر عن إيمانه ، إذ هو المتبوع وهم التابعون في ذلك .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما نزلت عليه ، قال : «يحق له أن يؤمن » .
والظاهر أن يكون قوله : والمؤمنون ، معطوفاً على قوله : الرسول ، ويؤيده قراءة علي ، وعبد الله : وآمن المؤمنون ، فأظهر الفعل الذي أضمره غيره من القراء ، فعلى هذا يكون : كل ، لشمول الرسول والمؤمنين ، وجوزوا أن يكون الوقف تم عند قوله : من ربه ، ويكون : المؤمنون ، مبتدأ ، و : كل ، مبتدأ ثان لشمول المؤمنين خاصة .
و : آمن بالله ، جملة في موضع خبر : كل ، والجملة ، من : كل وخبره ، في موضع خبر المؤمنين ، والرابط لهذه الجملة بالمبتدأ الأوّل محذوف ، وهو ضمير مجرور تقديره : كل منهم آمن ، كقولهم : السمن منوان بدرهم ، يريدون : منه بدرهم ، والإيمان بالله هو : التصديق به ، وبصفاته ، ورفض الأصنام ، وكل معبود سواه .
والإيمان بملائكته هو اعتقاد وجودهم ، وأنهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم ، والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمنهم كتاب الله ، وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، والإيمان برسله هو التصديق بأن الله أرسلهم لعباده .
وهذا الترتيب في غاية الفصاحة ، لأن الإيمان بالله هو المرتبة الأولى ، وهي التي يستبد بها العقل إذ وجود الصانع يقربه كل عاقل ، والإيمان بملائكته هي المرتبة الثانية ، لأنهم كالوسائط بين الله وعباده ، والإيمان بالكتب هو الوحي الذي يتلقنه الملك من الله ، يوصله إلى البشر ، هي المرتبة الثالثة ، والإيمان بالرسل الذين يقتبسون أنوار الوحي فهم متأخرون في الدرجة عن الكتب ، هي المرتبة الرابعة وقد تقدّم الكلام على شيء من هذا الترتيب في قوله : { من كان عدواً لله وملائكته ورسله } وقيل : الكلام في عرفان الحق لذاته ، وعرفان الخير للعمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم ، والقوة العملية بفعل الخيرات ، والأولى أشرف ، فبدئ بها ، وهو : الإيمان المذكور ، والثانية هي المشار إليها بقوله { سمعنا وأطعنا } وقيل : للإنسان مبدأ وحال ومعاد ، فالإيمان إشارة إلى المبدأ ، و : سمعنا وأطعنا إشارة إلى الحال ، و : غفرانك ، وما بعده إشارة إلى المعاد .
وقرأ حمزة ، والكسائي : وكتابه ، على التوحيد ، وباقي السبعة : وكتبه ، على الجمع .
فمن وحد أراد كل مكتوب ، سمي المفعول بالمصدر ، كقولهم : نسج اليمين أي : منسوجه قال أبو علي : معناه أن هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر ، وإن أريد بها الكثير ، كقوله { وادعوهم ثبوراً كثيراً } ولكنه ، كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، نحو : كثر الدينار والدرهم ، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، ومن الإضافة { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وفي الحديث : « منعت العراق درهمها وقفيزها » يراد به : الكثير ، كما يراد بما فيه لام التعريف .
ومعناه إن المفرد المحلى بالألف واللام يعم أكثر من المفرد المضاف .
وقال الزمخشري : وقرأ ابن عباس : وكتابه ، يريد القرآن .
أو الجنس ، وعنه : الكتاب أكثر من الكتب .
فإن قلت : كيف يكون الواحد أكثر من الجمع ؟ .
قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ، والجنسية ، قائمة في وحدان الجنس كلها ، لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجموع .
وليس كما ذكر ، لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاماً ، ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد ، فلو قال : أعتقت عبيدي ، يشمل ذلك كل عبد عبد ، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد ، سواء كانت فيه الألف واللام أم الإضافة ، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلاَّ بقرينة لفظية ، كأن يستثني منه ، أو يوصف بالجمع ، نحو : { إن الإنسان لفي خسر إلاَّ الذين آمنوا }
و : أهلك الناسَ الدينارُ الصفرُ والدرهمُ البيضُ ، أو قرينة معنوية نحو : نية المؤمن أبلغ من عمله ، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذا أربد به العموم ، وحمل على اللفظ في قوله : آمن ، فأفرد كقوله { قل كل يعمل على شاكلته }
وقرأ يحيي بن يعمر : وكتبه ورسله ، بإسكان التاء والسين ، وروي ذلك عن نافع .
وقرأ الحسن : ورسله ، بإسكان السين ، وهي رواية عن أبي عمرو وقرأ عبد الله : وكتابه ولقائه ورسله .
{ لا نفرق بين أحد من رسله } قرأ الجمهور بالنون ، وقدره : يقولون لا نفرق ، ويجوز أن يكون التقدير : يقول لا نفرق ، لأنه يخبر عن نفسه .
وعن غيره ، فيكون : يقول ، على اللفظ ، و : يقولون ، على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، وعلى كلا التقديرين فموضع هذا المقدر نصب على الحال ، وجوّز الحوفي وغيره أن يكون خبراً بعد خبر لكل .
وقرأ ابن جبير ، وابن يعمر ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ، ويعقوب ، ونص رواة أبي عمر : لا يفرق ، بالياء على لفظ : كل .
قال هارون : وهي في مصحف أبيّ ، وابن مسعود : لا يفرقون ، حمل على معنى : كل بعد الحمل على اللفظ ، والمعنى : أنهم ليسوا كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
والمقصود من هذا الكلام إثبات النبوّة ، وهو ظهور المعجزة على وفق الدعوى فاختصاص بعض دون بعض متناقض ، لا ما ادعاه بعضهم من أن المقصود هو عدم التفضيل بينهم ، و : أحد ، هنا هي المختصة بالنفي ، وما أشبهه ؟ فهي للعموم ، فلذلك دخلت : من ، عليها كقوله تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } والمعنى بين آحادهم قال الشاعر :
قال بعضهم : وأحد ، قيل : إنه بمعنى جميع ، والتقدير : بين جميع رسله ، ويبعد عندي هذا التقدير ، لأنه لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل .
والمقصود بالنفي هو هذا ، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل ، بل البعض ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فثبت أن التأويل الذي ذكره باطل ، بل معنى الآية : لا يفرق أحد من رسله وبين غيره في النبوّة . انتهى .
ولا يعني من فسرها : بجميع ، أو قال : هي في معنى الجميع ، إلا أنه يريد بها العموم نحو : ما قام أحد ، أي : ما قام فرد فرد من الرجال ، مثلاً ، ولا فرد فرد من النساء ، لا أنه نفى القيام عن الجميع ، فيثبت لبعض ، ويحتمل عندي أن يكون مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : لا يفرق بين أحد من رسله وبين أحد ، فيكون أحد هنا بمعنى واحد ، لا أنه اللفظ الموضوع للعموم في النفي .
ومن حذف المعطوف : سرابيل تقيكم الحر أي والبرد وقول الشاعر :
فما كان بين الخير لو جاء سالماً***
أي : بين الخير وبيني ، فحذف ، وبيني ، لدلالة المعنى عليه .
{ وقالوا سمعنا وأطعنا } أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، ولا يراد مجرد السماع ، بل القبول والإجابة .
وقدم : سمعنا ، على : وأطعنا ، لأن التكليف طريقه السمع ، والطاعة بعده ، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلاً هذا دهره .
{ غفرانك ربنا } أي : من التقصير في حقك ، أو لأن عبادتنا ، وإن كانت في نهاية الكمال ، فهي بالنسبة إلى جلالك تقصير .
{ وإليك المصير } إقرار بالمعاد .
أي : وإلى جزائك المرجع ، وانتصاب : غفرانك ، على المصدر ، وهو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمراً ، التقدير عند سيبويه : إغفر لنا غفرانك ، قال السجاوندي : ونسبه ابن عطية للزجاج ، وقال الزمخشري : غفرانك منصوب بإضمار فعله ، يقال : غفرانك لاكفرانك ، أي : نستغفرك ولانكفرك .
فعلى التقدير الأول : الجملة طلبية ، وعلى الثاني : خبرية .
واضطرب قول ابن عصفور فيه ، فمرة قال : هو منصوب بفعل يجوز إظهاره ، ومرة قال : هو منصوب يلتزم إضماره .
وعدّه مع : سبحان الله ، واخواتها .
وأجاز بعضهم انتصابه على المفعول به ، أي : نطلب ، أو : نسأل غفرانك .
وجوّز بعضهم الرفع فيه على أن يكون مبتدأ ، أي : غفرانك بغيتنا .
والمصير : اسم مصدر من صار يصير ، وهو مبني على : مفعل ، بكسر العين ، وقد اختلف النحويون في بناء المفعل مما عينه ياء نحو : يبيت ، ويعيش ، ويحيض ، ويقيل ، ويصير ، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح ، نحو : يضرب ، يكون للمصدر بالفتح يكون للمصدر بالفتح ، وللمكان والزمان نحو : { وجعلنا للناس معاشاً } أي : عيشا ، فيكون : المحيض بمعنى الحيض ، والمصير بمعنى الصيرورة ، على هذا شاذاً .
وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعِل بكسر العين ، أو : مفعَل بفتحها ، وأما الزمان والمكان فبالكسر .
ذهب إلى ذلك الزجاج ، ورده عليه أبو عليّ ، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع ، فحيث بنت العرب المصدر على مفعِل أو مفعَل اتبعناه ، وهذا المذهب أحوط .