قوله تعالى :{ قل الحمد لله } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية . وقيل : على جميع نعمه . { وسلام على عباده الذين اصطفى } قال مقاتل : هم الأنبياء والمرسلون ، دليله قوله عز وجل : { وسلام على المرسلين } . وقال ابن عباس في رواية أبي مالك : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقال الكلبي : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين . { آلله خير أما يشركون ؟ } قرأ أهل البصرة وعاصم : { يشركون } بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، يخاطب أهل مكة ، وفيه إلزام الحجة على المشركين بعد هلاك الكفار ، يقول : الله خير لمن عبده ، أم الأصنام لمن عبدها ؟ والمعنى : أن الله نجى من عبده من الهلاك ، والأصنام لمن تغن شيئاً عن عابديها عند نزول العذاب بهم .
{ 59 } { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ } .
أي : قل الحمد لله الذي يستحق كمال الحمد والمدح والثناء لكمال أوصافه وجميل معروفه وهباته وعدله وحكمته في عقوبته المكذبين وتعذيب الظالمين ، وسلم أيضا على عباده الذين تخيرهم واصطفاهم على العالمين من الأنبياء والمرسلين وصفوة الله من العالمين ، وذلك لرفع ذكرهم وتنويها بقدرهم وسلامتهم من الشر والأدناس ، وسلامة ما قالوه في ربهم من النقائص والعيوب .
{ آللَّهُ خَيْرٌ أمَا يُشْرِكُونَ } وهذا استفهام قد تقرر وعرف ، أي : الله الرب العظيم كامل الأوصاف عظيم الألطاف خير أم الأصنام والأوثان التي عبدوها معه ، وهي ناقصة من كل وجه ، لا تنفع ولا تضر ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها مثقال ذرة من الخير فالله خير مما يشركون .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىَ عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَىَ ءَآللّهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قُل يا محمد الحَمْدُ لِلّهِ على نعمه علينا ، وتوفيقه إيانا لما وفّقنا من الهداية وَسَلامٌ يقول : وأَمنة منه من عقابه الذي عاقب به قوم لوط ، وقوم صالح ، على الذين اصطفاهم ، يقول : الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدّين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به ، الجاحدين نبوّة نبيه . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا طلق ، يعني ابن غنام ، عن ابن ظهير ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الّذِينَ اصْطَفَى قال : أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قلت لعبد الله بن المبارك : أرأيت قول الله قُلِ الحَمْدُ لِلّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الّذِينَ اصْطَفَى من هؤلاء ؟ فحدثني عن سفيان الثوري ، قال : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : آللّهُ خَيْرٌ أمّا يُشْرِكُونَ يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء الذين زيّنا لهم أعمالهم من قومك فهم يعمهون : آلله الذي أنعم على أوليائه هذه النّعم التي قصّها عليكم في هذه السورة ، وأهلك أعداءه بالذي أهلكهم به من صنوف العذاب التي ذكرها لكم فيها خير ، أما تشركون من أوثانكم التي لا تنفعكم ولا تضرّكم ، ولا تدفع عن أنفسها ولا عن أوليائها سوءا ، ولا تجلب إليها ولا إليهم نفعا ؟ يقول : إن هذا الأمر لا يشكل على من له عقل ، فكيف تستجيزون أن تشركوا عبادة من لا نفع عنده لكم ، ولا دفع ضرّ عنكم في عبادة من بيده النفع والضرّ ، وله كلّ شيء . ثم ابتدأ تعالى ذكره تعديد نعمه عليهم ، وأياديه عندهم ، وتعريفهم بقلة شكرهم إياه على ما أولاهم من ذلك ، فقال : أمّنْ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ .
قرأ أبو السمال «قلَ » بفتح اللام وكذلك في آخر السورة{[9042]} وهذا ابتداء تقرير وتنبيه لقريش وهو بعد يعم كل مكلف من الناس جميعاً ، وافتتح ذلك بالقول بحمده وتحميده وبالسلام على عباده الذين اصطفاهم للنبوءة والإيمان ، فهذا اللفظ عام لجميعهم من بني آدم ، وكان هذا صدر خطبة للتقرير المذكور . وقال ابن عباس العباد المسلم عليهم هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واصطفاهم لنبيه .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الاختصاص توبيخ للمعاصرين من الكفار ، وقال الفراء الأمر بالقول في هذه الآية هو للوط عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد : وهذه عجمة من الفراء رحمه الله ، ثم وقف قريشاً والعرب على جهة التوبيخ على موضع التباين بين الله عز وجل وبين الأوثان والأنصاب ، وقرأ جمهور الناس «تشركون » بالتاء من فوق ، وحكى المهدوي عن أبي عمرو وعاصم «يشركون » بالياء من تحت ، وفي هذا التفضيل بلفظة { خير } أقوال ، أحدها أن التفضيل وقع بحسب معتقد المشركين إذ كانت تعتقد أن في آلهتها خيراً بوجه ما ، وقالت فرقة في الكلام حذف مضاف في موضعين التقدير أتوحيد الله خير أم عبادة ما تشركون ، ف { ما } في هذه الآية بمعنى الذي ، وقالت فرقة «ما » مصدرية وحذف المضاف إنما هو أولاً تقديره أتوحيد الله خير أم شرككم ، وقيل { خير } هنا ليست بأفعل إنما هي فعل كما تقول الصلاة خير دون قصد تفضيل .
قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم أن هذه الألفاظ التي تعم معاني كثيرة كخير وشر وأحب ونحو ذلك قد يقع التفضيل بها بين أشياء متباينة لأن المتباينات قدر بما اشترك فيها ولو بوجه ضعيف بعيد ، وأيضاً فهذا تقرير والمجادل يقرر خصمه على قسمين أحدهما فاسد ، ليرى وقوعه وقد استوعبنا هذا فيما مضى ، وقالت فرقة تقدير هذه الآية «الله ذو خير أما تشركون » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا النوع من الحذف بعيد تأوله ، وقرأ الحسن وقتادة وعاصم «يشركون » بالياء من تحت ، وقرأ أهل المدينة ومكة والكوفة بالتاء من فوق .
{ قل الحمد لله وسلام على عبادة الذين اصطفى }
لما استوفى غرض الاعتبار والإنذار حقه بذكر عواقب بعض الأمم التي كذبت الرسل وهي أشبه أحوالاً بأحوال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي أنزل عليه ، وفي خلال ذلك وحَفَافيه تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه أقبل الله بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يلقنه ماذا يقوله عقب القصص والمواعظ السالفة استخلاصاً واستنتاجاً منها ، وشكر الله على المقصود منها .
فالكلام استئناف والمناسبة ما علمت . أمر الرسول بالحمد على ما احتوت عليه القصص السابقة من نجاة الرسل من العذاب الحال بقومهم وعلى ما أعقبهم الله على صبرهم من النصر ورفعة الدرجات . وعلى أن أهلك الأعداء الظالمين كقوله { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } [ الأنعام : 45 ] ونظيره قوله في سورة العنكبوت ( 63 ) { قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون } وقوله في آخر هذه السورة ( 93 ) { وقل الحمد لله سيريكم } الآية . فأمر الرسول بحمد الله على ذلك باعتبار ما أفاده سوق تلك القصص من الإيماء إلى وعد الرسول بالنصر على أعدائه . فقوله { قل الحمد لله } أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بإنشاء حمد الله . وقد تقدمت صيغة الحمد في أول الفاتحة .
وعطف على المأمور بأن يقوله من الحمد أمر بأن يتبعه بالسلام على الرسل الذين سبقوه قدراً لقدر ما تجشموه في نشر الدين الحق .
وأصل { سلام } سلمت سلاماً ، مقصود منه الإنشاء فحذف الفعل وأقيم مفعوله المطلق بدلاً عنه . وعدل عن نصب المفعول المطلق إلى تصييره مبتدأ مرفوعا للدلالة على الثبات والدوام كما تقدم عند قوله { الحمد لله } في أول سورة الفاتحة ( 2 ) .
والسلام في الأصل اسم يقوله القائل لمن يلاقيه بلفظ : سلام عليك ، أو السلام عليك . ومعناه سلامة وأمنٌ ثابت لك لا نكول فيه ، لما تؤذن به ( على ) من الاستعلاء المجازي المراد به التمكن كما في { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .
وأصل المقصود منه هو التأمين عند اللقاء إذ قد تكون بين المتلاقين إحَن أو يكون من أحدهما إغراء بالآخر ، فكان لفظ ( السلام عليك ) كالعهد بالأمان . ثم لما كانت المفاتحة بذلك تدل على الابتداء بالإكرام والتلطف عند اللقاء ونية الإعانة والقرى ، شاع إطلاق كلمة : السلام عليك ، ونحوها عند قصد الإعراب عن التلطف والتكريم وتنوسي ما فيها من معنى بذل الأمن والسلامة ، فصار الناس يتقاولونها في غير مظان الريبة والمخافة فشاعت في العرب في أحيائهم وبيوتهم وصارت بمنزلة الدعاء الذي هو إعراب عن إضمار الخير للمدعو له بالسلامة في حياته . فلذلك قال تعالى { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة } كما تقدم في سورة النور ( 61 ) وصار قول : السلام ، بمنزلة قول : حياك الله ، ولكنهم خصُّوا كلمة : ( حياك الله ) بملوكهم وعظمائهم فانتقلت كلمة ( السلام عليكم ) بهذا إلى طور آخر من أطوار استعمالها من عهد الجاهلية وقد قيل إنها كانت تحية للبشر من عهد آدم .
ثم ذكر القرآن السلام من عند الله تعالى على معنى كونه معاملة منه سبحانه بكرامة الثناء وحسن الذكر للذين رضي الله عنهم من عباده في الدنيا كقوله حكاية عن عيسى إذ أنطقه بقوله { والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت } [ مريم : 33 ] . وكذلك في الآخرة وما في معناها من أحوال الأرواح بعد الموت كقوله عن عيسى { ويوم أبعث حياً } [ مريم : 33 ] ، وقوله عن أهل الجنة { لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 57 ، 58 ] .
وجاء في القرآن السلام على خمسة من الأنبياء في سورة الصافات . وأيضاً أمر الله الأمة بالسلام على رسولها فقال { يأ أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } [ الأحزاب : 56 ] أي قولوا : السلام عليك أيها النبي لأن مادة التفعيل قد يُؤتى بها للدلالة على قول منحوب من صيغة التفعيل ، فقوله : { سلّموا تسليماً } معناه : قولوا كلمة السلام . مثل بسمل ، إذا قال : بسم الله ، وكبر ، إذا قال : الله أكبر . وفي الحديث تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .
ومعنى { وسلام على عباده الذين اصطفى } إنشاء طلب من الله أن يسلم على أحد المصطفين ، أي أن يجعل لهم ذكراً حسناً في الملأ الأعلى .
فإذا قال القائل : السلام على فلان ؛ وفلان غائب أو في حكم الغائب كان ذلك قرينة على أن المقصود الدعاء له بسلام من الله عليه . فقد أزيل منه معنى التحية لا محالة وتعين للدعاء ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين . عن أن يقولوا في التشهد : السلام على الله السلام على النبي السلام على فلان وفلان . فقال لهم " إن الله هو السلام " أي لا معنى للسلام على الله في مقام الدعاء لأن الله هو المدعو بأن يسلم على من يطلب له ذلك .
فلما أمر تعالى في هذه السورة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول { سلام على عباده الذين اصطفى } فقد عيّن له هذه الجملة ليقولها يسأل من الله أن يكرم عباده الذين اصطفى بالثناء عليهم في الملأ الأعلى وحسن الذكر ، إذ قصارى ما يستطيعه الحاضر من جزاء الغائب على حسن صنيعه أن يبتهل إلى الله أن ينفحه بالكرامة .
والعباد الذين اصطفاهم الله في مقدمتهم الرسل والأنبياء ويشمل ذلك الصالحين من عباده كما في صيغة التشهد : « السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » . وسيأتي الكلام على التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب .
{ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا تشركون }
هذا مما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقوله فأمر أن يقول : { الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } تمهيداً لقوله : { آللَّه خير أما تشركون } لأن العباد الذين اصطفاهم الله جاؤوا كلهم بحاصل هذه الجملة .
وأمر أن يشرع في الاستدلال على مسامع المشركين فيقول لهم هذا الكلام ، بقرينة قوله { أما تشركون } بصيغة الخطاب في قراءة الجمهور ، ولأن المناسب للاستفهام أن يكون موجهاً إلى الذين أشركوا بالله ما لا يخلق ولا يرزق ولا يفيض النعم ولا يستجيب الدعاء ، فليس هذا لقصد إثبات التوحيد للمسلمين .
والاستفهام مستعمل في الإلجاء وإلزام المخاطب بالإقرار بالحق وتنبيهه على خطئه . وهذا دليل إجمالي يقصد به ابتداء النظر في التحقيق بالإلهية والعبادة . فهذا من قبيل ما قال الباقلاني وإمام الحرمين وابن فورك إن أول الواجبات أول النظر أو القصد إلى النظر ثم تأتي بعده الأدلة التفصيلية ، وقد ناسب إجماله أنه دليل جامع لما يأتي من التفاصيل فلذلك جيء فيه بالاسم الجامع لمعاني الصفات كلها ، وهو اسم الجلالة . فقيل : { آللَّه خير } . وجيء فيما بعد بالاسم الموصول لما في صلاته من الصفات .
وجاء { خير } بصيغة التفضيل لقصد مجاراة معتقدهم أن أصنامهم شركاء الله في الإلهية بحيث كان لهم حظ وافر من الخير في زعمهم ، فعبّر ب { خير } لإيهام أن المقام لإظهار رجحان إلهية الله تعالى على أصنامهم استدراجاً لهم في التنبيه على الخطأ مع التهكم بهم إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله . والعاقل لا يؤثر شيئاً على شيء إلا لداع يدعو إلى إيثاره ، ففي هذا الاستفهام عن الأفضل في الخير تنبيه لهم على الخطأ المفرط والجهل المورط لتنفتح بصائرهم إلى الحق إن أرادوا اهتداء . والمعنى : ءالله الحقيق بالإلهية أم ما تشركونهم معه .
والاستفهام على حقيقته بقرينة وجود { أم } المعادلة للهمزة فإن التهكم يبنى على الاستعمال الحقيقي .
وهذا الكلام كالمقدمة للأدلة الآتية جميعها على هذا الدليل الإجمالي كما ستعلمه . .
وقرأ الجمهور { تشركون } بتاء الخطاب . وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بياء الغيبة فيكون القول الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم محكياً بالمعنى روعي فيه غيبة المشركين في مقام الخطاب بالأمر .
و { ما } موصولة والعائد محذوف . والتقدير : ما يشركونها إياه ، أي أصنامكم .