المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

23- من هؤلاء المؤمنين رجال عاهدوا الله على الثبات في القتال مع الرسول فوفوا بما عاهدوا ، فمنهم من نال شرف الاستشهاد ، ومنهم من بقى حيا ينتظر أن ينال هذا الشرف ، وما بدلوا عهد الله الذي قطعوه على أنفسهم ، ولا غيروا شيئاً منه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

قوله تعالى :{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أي : قاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به ، { فمنهم من قضى نحبه } أي : فرغ من نذره ، ووفى بعهده ، فصبر على الجهاد حتى استشهد ، والنحب : النذر ، والنحب : الموت أيضاً ، قال مقاتل : قضى نحبه يعني : أجله فقتل على الوفاء ، يعني حمزة وأصحابه . وقيل : قضى نحبه أي : بذل جهده في الوفاء ، بالعهد من قول العرب : نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع ، إذا مد فلم ينزل ، { ومنهم من ينتظر } الشهادة . وقال محمد بن إسحاق : فمنهم من قضى نحبه من استشهد يوم بدر وأحد ، ومنهم من ينتظر يعني : من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين ، إما الشهادة أو النصر ، { وما بدلوا } عهدهم { تبديلاً } .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سعيد الخزاعي ، أنبأنا عبد الأعلى ، عن حميد قال : سألت أنساح وحدثني عمرو بن زرارة ، أنبأنا زياد ، حدثني حميد الطويل ، عن أنس قال : " غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني : أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني : المشركين ، ثم تقدم ، فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد " ، قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، قال أنس : كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } إلى آخر الآية .

أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي نصر ، أنبأنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، أنبأنا محمد بن سليمان الجوهري بأنطاكية ، أنبأنا مسلم بن إبراهيم ، أنبأنا الصلت بن دينار ، عن أبي نصرة ، عن جابر بن عبد الله قال : " نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد الله فقال : من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن أبي شيبة ، أنبأنا وكيع بن إسماعيل ، عن قيس قال : " رأيت يد طلحة شلاء " وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

ولما ذكر أن المنافقين ، عاهدوا اللّه ، لا يولون الأدبار ، ونقضوا ذلك العهد ، ذكر وفاء المؤمنين به ، فقال : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ } أي : وفوا به ، وأتموه ، وأكملوه ، فبذلوا مهجهم في مرضاته ، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته .

{ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أي : إرادته ومطلوبه ، وما عليه من الحق ، فقتل في سبيل اللّه ، أو مات مؤديًا لحقه ، لم ينقصه شيئًُا .

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } تكميل ما عليه ، فهو شارع في قضاء ما عليه ، ووفاء نحبه ولما يكمله ، وهو في رجاء تكميله ، ساع في ذلك ، مجد .

{ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } كما بدل غيرهم ، بل لم يزالوا على العهد ، لا يلوون ، ولا يتغيرون ، فهؤلاء ، الرجال على الحقيقة ، ومن{[701]}  عداهم ، فصورهم صور رجال ، وأما الصفات ، فقد قصرت عن صفات الرجال .


[701]:- في أ: وما وعداهم، ولعل الصواب ما أثبته.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مّن قَضَىَ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُواْ تَبْدِيلاً * لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } .

يقول تعالى ذكره مِنَ المُؤْمِنِينَ بالله ورسوله رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْه يقول : أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضرّاء ، وحين البأس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ يقول : فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له على نفسه ، فاستشهد بعض يوم بدر ، وبعض يوم أُحد ، وبعض في غير ذلك من المواطن وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاءه والفراغ منه ، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده ، والنصر من الله ، والظفر على عدوّه . والنّحب : النذر في كلام العرب . وللنحب أيضا في كلامهم وجوه غير ذلك ، منها الموت ، كما قال الشاعر :

*** قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ ***

يعني : منيته ونفسه ومنها الخطر العظيم ، كما قال جرير :

بِطَخْفَةَ جالَدْنا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا *** عَشِيّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ عَلى نَحْبِ

أي على خطر عظيم ومنها النحيب ، يقال : نحب في سيره يومه أجمع : إذا مدّ فلم ينزل يومه وليلته ومنها التنحيب ، وهو الخطار ، كما قال الشاعر :

وإذْ نَحّبَتْ كَلْبٌ على النّاس أيّهُمْ *** أحَقّ بِتاجِ المَاجِدِ المُتَكَوّم ؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان مِنَ المُؤْمِنينَ رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ : أي وفوا الله بما عاهدوه عليه فمنهم من قَضَى نَحْبَهُ أي فرغ من عمله ، ورجع إلى ربه ، كمن استشهد يوم بدر ويوم أُحد ومنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ما وعد الله من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : عهده فقتل أو عاش وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يوما فيه جهاد ، فيقضي نحبه عهده ، فيقتل أو يصدق في لقائه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : عهده وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال : يوما فيه قتال ، فيصدق في اللقاء .

قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن مجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : مات على العهد .

قال : ثنا أبو أُسامة ، عن عبد الله بن فلان قد سماه ذهب عنى اسمه عن أبيه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : نذره .

حدثنا ابن إدريس ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمه عيسى بن طلحة : أن أعرابيا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله : من الذين قضوا نحبهم ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ودخل طلحة من باب المسجد وعليه ثوبان أخضران ، فقال : «هَذَا مِنَ الّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوّذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : موته على الصدق والوفاء . وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الموت على مثل ذلك ، ومنهم من بدّل تبديلاً .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن مجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال : النحب : العهد .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ على الصدق والوفاء وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ من نفسه الصدق والوفاء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ذلك .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي بكير ، قال شريك بن عبد الله ، أخبرناه عن سالم ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : الموت على ما عاهد الله عليه وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الموت على ما عاهد الله عليه .

وقيل : إن هذه الاَية نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا الله أن يفوا قتالاً للمشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من أوفى فقضى نحبه ، ومنهم من بدّل ، ومنهم من أوفى ولم يقض نحبه ، وكان منتظرا ، على ما وصفهم الله به من صفاتهم في هذه الاَية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر ، فقال : تغيبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لئن رأيت قتالاً ليرينّ الله ما أصنع فلما كان يوم أُحُد ، وهُزم الناس ، لقي سعد بن معاذ فقال : والله إني لأجدُ ريح الجنة ، فتقدّم فقاتل حتى قُتل ، فنزلت فيه هذه الاَية : مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالُ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الله بن بكير ، قال : حدثنا حميد ، قال : زعم أنس بن مالك قال : غاب أنس بن النضر ، عن قتال يوم بدر ، فقال : غبت عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين ، لئن أشهدني الله قتالاً ، ليرينّ الله ما أصنع فلما كان يوم أُحُد ، انكشف المسلمون ، فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، فمشى بسيفه ، فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أي سعد إني لأجد ريح الجنة دون أُحُد . فقال سعد : يا رسول الله فما استطعت أن أصنع ما صنع . قال أنس بن مالك : فوجدناه بين القتلى ، به بضع ثمانون جراحة ، بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه . قال أنس : فكنا نتحدّث أن هذه الاَية مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ نزلت فيه ، وفي أصحابه .

حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت حميدا يحدّث ، عن أنس بن مالك ، أن أنس بن النضر ، غاب عن قتال بدر ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا طلحة بن يحيى ، عن موسى وعيسى بن طلحة عن طلحة أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وكانوا لا يجرءون على مسألته ، فقالوا للأعرابي : سله مَنْ قَضَى نَحْبَهُ من هو ؟ فسأله ، فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ثم دخلت من باب المسجد وعليّ ثياب خُضر فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أيْنَ السّائِليُ عَمّنْ قَضَى نَحْبَهُ ؟ » قال الأعرابيّ : أنا يا رسول الله ، قال : «هَذَا مِمّنْ قَضَى نَحْبَهُ » .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الحميد الحِمّاني ، عن إسحاق بن يحيى الطّلْحِي ، عن موسى بن طلحة ، قال : قام معاوية بن أبي سفيان ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «طَلْحَةُ ممّنْ قَضَى نَحْبَهُ » .

حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي ، قال : حدثنا سليمان بن أيوب ، قال : ثني أبي ، عن إسحاق ، عن يحيى بن طلحة ، عن عمه موسى بن طلحة ، عن أبيه طلحة ، قال : لما قدمنا من أُحُد وصرنا بالمدينة ، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم المنبر ، فخطب الناس وعزّاهم ، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر ، ثم قرأ : رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ . . . الاَية ، قال : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ فالتفت وعليّ ثوبات أخضران ، فقال : «أيّها السّائِلُ هَذَا مِنْهُمْ » .

وقوله : وَما بَدّلُوا تَبْدِيلاً : وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييرا ، كما غيره المعوّقون القائلون لإخوانهم : هلّ إلينا ، والقائلون : إن بيوتنا عورة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما بَدّلُوا تَبْديلاً يقول : ما شكّوا وما تردّدوا في دينهم ، ولا استبدلوا به غيره .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَما بَدّلُوا تَبْديلاً : لم يغيروا دينهم كما غير المنافقون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

ثم أثنى الله على رجال من المؤمنين عاهدوا الله تعالى على الاستقامة التامة فوفوا وقضوا نحبهم ، أينذرهم وعهدهم ، و «النحب » في كلام العرب النذر ، والشيء الذي يلتزمه الإنسان ، ويعتقد الوفاء به ، ومنه قول الشاعر :

«قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر{[9484]} »

المعنى أنه التزم الصبر إلى موت أو فتح فمات ومن ذلك قول جرير : [ الطويل ]

بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا . . . عشية بسطام جرين على نحب{[9485]}

أي على أمرعظيم التزم القيام ، كأنه خطر عظيم وشبهه ، وقد يسمى الموت نحباً ، وبه فسر ابن عباس هذه الآية ، وقال الحسن { قضى نحبه } مات على عهد ، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات قضى في نحبه ، ويقال لمن مات قضى فلان نحبه ، وهذا تجوز كأن الموت أمر لا بد للإنسان أن يقع به فسمي نحباً ، لذلك فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بذلك أنس بن النضر عم أنس بن مالك ، وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك وقال : لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً ليرين الله ما أصنع ، فلما كانت أحد أبلى بلاء حسناً حتى قتل ووجد فيه نيف على ثمانين جرحاً{[9486]} ، فقالت فرقة : إن هذه الإشارة هي إلى أنس بن النضر ونظرائه من استشهد في ذات الله تعالى ، وقال مقاتل والكلبي الرجال الذين { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة ، وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب هم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوا بعهود الإسلام على التمام ، فالشهداء منهم ، والعشرة الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم ، إلى من حصل في هذه المرتبة من لن ينص عليه ، ويصحح هذه المقالة ما روي

«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر فقال له أعرابي : يا رسول الله من الذي قضى نحبه ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ، ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد وعليه ثوبان أخضران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين السائل ؟ فقال : ها أنا ذا يا رسول الله ، قال : هذا ممن قضى نحبه{[9487]} »

قال القاضي أبو محمد : فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شروطه الموت ، وقال معاوية بن أبي سفيان : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «طلحة ممن قضى نحبه »{[9488]} ، وروت هذا المعنى عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{[9489]} ، وقوله تعالى : { ومنهم من ينتظر } يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح وهو بسبيل ذلك { وما بدلوا } وما غيروا ، ثم أكد بالمصدر ، وقرأ ابن عباس على منبر البصرة «ومنهم من بدل تبديلاً » ، رواه عنه أبو نصرة ، وروى عنه عمرو بن دينار «ومنهم من ينتظر وآخرون بدلوا تبديلاً »{[9490]} .


[9484]:هذا عجز بيت قاله ذو الرومة، والبيت بتمامه: عشية فر الحارثيون بعدما قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر وهوبر: اسم رجل هو يزيد بن هوبر، وهو من بني الحارث بن كعب، والبيت في (اللسان-هبر)،قال:"الهوبر:الفهد- عن كراع-، وهوبر: اسم رجل، قال ذو الرمة: عشية فرّ...البيت"، وذكره أبو عبيدة في(مجاز القرآن) عند تفسير قوله تعالى:{فمنهم من قضى نحبه} أي: نذره الذي كان، كما قال، والشاهد في البيت هنا أن النحب هو الشيء الذي يلتزم به الإنسان حتى لو دفع حياته ثمنا له.
[9485]:البيت في(اللسان-نَحَبَ)، وفي(مجاز القرآن)لأبي عبيدة.وفي(التاج-نَحَب)، وطفخة:جبل أحمر طويل في ديار بني تميم، كانت به رقعة بين بني يربوع وقابوس بن النعمان، وكان ذلك حين بعث النعمان جيشا بقيادة ابنه قابوس وأخيه حسان، فهزمت بني يربوع الجيش بطخفة، وأسروا ابن الملك وأخاه، ثم منوا عليهما بعد ذلك، وهذا ما أراده جرير، وتضبط الطاء في(طخِفة) بالفتح والكسر كما جاء في معجم البكري. وهناك كثير من الشواهد على أن النحب هو النذر أو الشيء الذي يلتزم به الإنسان،(والموت نحب لأنه شيء مفروض على الإنسان ولا بد من الوفاء به)، ومنها قول الشاعر: يا عمرو بن الأكرمين نسبا قد نحب المجد علينا نحبا وقول لبيد في بيته المشهور: ألا لا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل؟ وقول حسان بن ثابت: مساميح أبطال يرجون للندى يرون عليهم فعل آبائهم نحبا
[9486]:أخرجه ابن سعد، وأحمد، ومسلم،والترمذي، والنسائي، والبغوي في معجمه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل، عن أنس رضي الله عنه.(الدر المنثور)، وروى الحديث أيضا البخاري في المغازي ولم يذكر سبب النزول، ورواه في التفسير مقتصرا على سبب النزول. وقال الحافظ بن حجر:"في رواية ثابت، فقالت عمتي الربيع بنت النضر أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: وزاد النسائي من هذا الوجه: وكان حسن البنان".
[9487]:أخرجه ابن أبي عاصم، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، عن طلحة رضي الله عنه، وفيه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟وكانوا لا يجترئون على سؤاله يوقرونه ويهابونه، وفيه أيضا:"ثم انطلقت من باب المسجد".(الدر المنثور).
[9488]:أخرجه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن معاوية رضي الله عنه.(الدر المنثور).
[9489]:أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل طلحة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(يا طلحة أنت ممن قضى نحبه). (الدر المنثور).
[9490]:قال أبو بكر الأنباري:"وهذا الحديث عند أهل العلم مردود، لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله تعالى وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يعرف فيهم مغير، وما وجد من جماعتهم مبدل رضي الله عنهم".