قوله تعالى : { فتبسم ضاحكاً من قولها } قال الزجاج : أكثر ضحك الأنبياء التبسم . وقوله { ضاحكاً } أي : متبسماً . قيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثني ابن وهب ، أنبأنا عمرو ، هو ابن الحارث ، أنبأنا أبو نصر ، حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة قالت : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم الخزاعي ، أنبأنا الهيثم ابن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال : " ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قال مقاتل : كان ضحك سليمان من قول النملة تعجباً ، لأن الإنسان إذا رأى مالا عهد له به تعجب وضحك ، ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه { وقال رب أوزعني } ألهمني ، { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه ، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } أي : أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم ، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ومن بعدهم من النبيين . وقيل : أدخلني الجنة برحمتك مع عبادك الصالحين .
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا } إعجابا منه بفصاحتها{[592]} ونصحها وحسن تعبيرها . وهذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب الكامل ، والتعجب في موضعه وأن لا يبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم ، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جل ضحكه التبسم ، فإن القهقهة تدل على خفة العقل وسوء الأدب . وعدم التبسم والعجب مما يتعجب منه ، يدل على شراسة الخلق والجبروت . والرسل منزهون عن ذلك .
وقال شاكرا لله الذي أوصله إلى هذه الحال : { رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني ووفقني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد . فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه ، { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي : ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه لكونه موافقا لأمرك مخلصا فيه سالما من المفسدات والمنقصات ، { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ } التي منها الجنة { فِي } جملة { عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } فإن الرحمة مجعولة للصالحين على اختلاف درجاتهم ومنازلهم .
فهذا نموذج ذكره الله من حالة سليمان عند سماعه خطاب النملة ونداءها .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَبَسّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصّالِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فتبسّم سليمان ضاحكا من قول النملة التي قالت ما قالت ، وقال : رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أنْعَمْتَ عَليّ يعني بقوله أوْزِعْنِي : ألهمني . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : قالَ رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ يقول : اجعلني .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله الله : رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أنْعَمْتَ عَليّ قال : في كلام العرب ، تقول : أوزع فلان بفلان ، يقول : حرض عليه . وقال ابن زيد : أوْزِعْنِي ألهمني وحرّضني على أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ .
وقوله : وأنْ أعْمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ يقول : وأوزعني أن أعمل بطاعتك وما ترضاه وأدّخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ يقول : وأدخلني برحمتك مع عبادك الصالحين ، الذين اخترتهم لرسالتك وانتخبتهم لوحيك ، يقول : أدخلني من الجنة مداخلهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عبادِكَ الصّالِحينَ قال : مع عبادك الصالحين الأنبياء والمؤمنين .
{ فتبسم ضاحكا من قولها } تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها ، وسرورا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم غرضها ولذلك سأل توفيق شكره . { وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك } أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني بحيث لا انفك عنه ، وقرأ البزي وورش بفتح ياء { أوزعني } . { التي أنعمت علي وعلى والدي } أدرج فيه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها ، فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية . { وأن أعمل صالحا ترضاه } إتماما للشكر واستدامة للنعمة . { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } في عدادهم الجنة .
{ فتبسم } من قولها ، والتبسم ضحك الأنبياء في غالب أمرهم لا يليق بهم سواه{[9002]} ، وكان تبسمه سروراً ، واختلف بما كان ، فقالت فرقة بنعمة الله في إسماعه وإفهامه ونحو ذلك ، وقالت فرقة بثناء النملة عليه وعلى جنوده في أن نفت عنهم تعمد القبيح من الفعل فجعلت الحطم { وهم لا يشعرون } ، وقرأ شهر بن حوشب «مسْكنكم » بسكون السين على الإفراد ، وفي مصحف أبي «مساكنكن » ، و { ضاحكاً } نصب على الحال ، وقرأ محمد بن السميفع «ضحكاً » وهو نصب على المصدر إما ب «تبسم » على مذهب المبرد إذ هو في معنى ضحك ، وإما بتقدير ضحك على مذهب سيبويه ، وقرأ جمهور القراء «لا يحْطمنّكم » بشد النون وسكون الحاء ، وقرأ أبو عمرو وفي رواية عبيد «لا يحطمنْكم » بسكون النون وهي قراءة ابن أبي إسحاق ، وقرأ الحسن وأبو رجاء «لا يُحَطِّمنّكم » بضم الياء وفتح الحاء وكسر الطاء وشدها وشد النون وعنه أيضاً «يَحِطِّمنكم » بفتح الياء وكسر الحاء والطاء وشدها{[9003]} ، وقرأ الأعمش وطلحة «لا يحطمكم » مخففة بغير نون ، وفي مصحف أبي بن كعب «لا يحطمنكن » مخففة النون التي قبل الكاف ، و [ ضاحكا ] نصب على الحال ، وقرأ محمد بن السميفع : [ ضاحكا ] وهو نصب على المصدر [ بفعل محذوف يدل عليه [ تبسم ] ، كأنه قال : " ضحك ضحكا " ، وهذا مذهب صاحب الكتاب ، أو يكون منصوبا بنفس [ تبسم ] لأنه في معنى ( ضحك ) ]{[9004]} .
ثم دعا سليمان إلى ربه في أن يعينه الله تعالى ويفرغه إلى شكر نعمته وهذا هو معنى «إيزاع الشكر » ، وباقي الآية بين .