{ من قبل } إنزال القرآن { هدى للناس } الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم ، أي : أنزل الله القرآن والتوراة والإنجيل هدى للناس من الضلال ، فمن قبل هدى الله فهو المهتدي ، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله { وأنزل الفرقان } أي : الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة على جميع المقاصد والمطالب ، وكذلك فصل وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى بقيت الأحكام جلية ظاهرة ، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة لمن لم يؤمن به وبآياته ، فلهذا قال { إن الذين كفروا بآيات الله } أي : بعد ما بينها ووضحها وأزاح العلل { لهم عذاب شديد } لا يقدر قدره ولا يدرك وصفه { والله عزيز } أي : قوي لا يعجزه شيء { ذو انتقام } ممن عصاه .
وقوله { مِن قَبْلُ } متعلق " بأنزل " و " هدى " حال من التوراة والإِنجيل ، ولم يثن لأنه مصدر . ويجوز أن يكون مفعولا لأجله والعامل فيه أنزل .
أى : وأنزل التوراة والإِنجيل من قبل تنزيل القرآن لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذى من جملته الإِيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم واتباعه حين يبعث ، لأنهما قد اشتملتا على البشارة به والحض على طاعته .
قالوا : فالمراد بالناس من عمل بالتوراة والإِنجيل وهم بنو إسرائيل . ويحتمل أنه عام بحيث يشمل هذه الأمة وإن لم نكن متعبدين أى مكلفين ومأمورين بشرع من قبلنا ، والآن فيهما ما يفسد التوحيد وصفات البارى والبشارة بالنبى صلى الله عليه وسلم .
قال الآلوسى : وعبر فى جانب التوراة والإِنجيل بقوله " أنزل " للإِشارة إلى أنهما لم يكن لهما سوى نزول واحد ، بخلاف القرآن فإن له نزولين : نزولا من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ، ونزولا من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجما فى ثلاث وعشرين سنة على المشهور ، ولهذا يقال فيه نزل وأنزل . . " .
هذا ، وليست التوراة التى بين أيدى اليهود اليوم هى التوراة التى أنزلها الله على موسى ، فقد بين القرآن فى أكثر من آية أن بعض أهل الكتاب قد امتدت أيديهم الأثيمة إلى التوراة فحرفوا منها ما حرفوا ، ومن ذلك قوله - تعالى - { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب ويعفوا عن كَثِيرٍ } وقوله : - تعالى- { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ }
ومن الأدلة على أن التوراة التى بين أيدى اليهود اليوم ليست هى التى أنزلها الله على موسى : انقطاع سندها ، واشتمالها على كثير من القصص والعبارات والمتناقضات التى تتنزه الكتب السماوية عن ذكرها .
وكذلك الحال بالنسبة للإِنجيل ؛ إذ ليست هذه الأناجيل التى يقرؤها المسيحيون اليوم هى الإِنجيل الذى أنزله الله على عيسى ؛ وإنما هى مؤلفات ألفت بعد عيسى - عليه السلام - ونسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه .
أما الإِنجيل الذى أنزله الله على عيسى والذى وصفه الله بأنه هداية للناس فهو غير هذه الأناجيل .
و { الفرقان } كل ما فرق به بين الحق والباطل ، والحلال والحرام . وهو مصدر فرق يفرق بين الشيئين فرقا وفرقاناً .
1- والمراد به عند أكثر المفسرين : الكتب السماوية التى سبق ذكرها وهى التوراة والإِنجيل والقرآن . أى : أنزل بهذه الكتب ما يفرق به بين الحق والباطل ، والهدى والضلال . والخير والشر ، وبذلك لا يكون لأحد عذر فى جحودها والكفر بها .
وأعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإِنزال ، تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى .
2- وقال بعضهم المراد بالفرقان هنا القرآن . وإنما أعاده بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ، ورفعا لمكانه ، ومدحا له بكونه فارقاً بين الحق والباطل ، للإِشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله - تعالى - وأنه تتميم لما سبقه ، وأنه كمال الشرائع كلها .
3- وقال بعضهم : المراد به جنس الكتب السماوية التى أنزلها الله - تعالى - على رسله لهداية الناس وسعادتهم . وقد عبر عنها بالفرقان ليشمل هذا الوصف ما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم ، إثر تخصيص مشاهيرها بالذكر .
وقد ذكر صاحب الكشاف هذه الأقوال وغيرها فقال : " فإن قلت : ما المراد بالفرقان ؟ قلت : جنس الكتب السماوية لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل من كتبه ، أو من هذه الكتب . أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور . أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له من كونه فارقا بين الحق والباطل " .
أما الفخر الرازى فإنه لم يرتض كل هذه الأقوال ، بل أتى برأى جديد فقال - ما ملخصه :
4- " والمختار عندى أن المراد من هذا الفرقان : المعجزات التى قرنها الله - تعالى - بإنزال هذه الكتب ، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب ، وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله ، افتقروا فى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين ، فلما أظهر الله على وفق دعواهم تلك المعجزات ، حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب . فالمعجزة هى الفرقان . فلما ذكر الله أنه أنزل الكتاب بالحق ، وأنه أنزل التوراة والإِنجيل من قبل ذلك ، بين أنه - تعالى - أنزل معها ما هو الفرقان الحق ، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد بينها وبين سائر الكتب المختلفة " .
والذى نراه أقرب إلى القبول أن المراد بالفرقان هنا جنس الكتب السماوية لأنها جميعها فارقة بين الحق والباطل فيندرج تحتها القرآن وغيره من الكتب السماوية .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المنحرفين عن طريق الحق ، الكافرين بآيات الله ، فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } أى : إن الذين كفروا بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، وصدق رسله فيما يبلغون عنه ، لهم عذاب شديد منه - سبحانه - بسبب كفرهم وجحودهم { والله عَزِيزٌ } أى منيع الجانب ، غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
وفى قوله { والله عَزِيزٌ } إشارة إلى القدرة التامة على العاقب ، وفى قوله { ذُو انتقام } إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب ، ينزله متى شاء ، وكيف شاء ، بمقتضى قدرته وحكمته وإرادته ، والوصف الأول صفة للذات . والثانى صفة للفعل .
وقوله تعالى : { من قبل } يعني من قبل القرآن{[2926]} ، وقوله : { هدى للناس } معناه دعاء ، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع ، لأنهم المدعوون بهما لا غير ، وإن أراد أنهما { هدى } في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره ، منصوب{[2927]} لمن اهتدى به ، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر .
قال القاضي رحمه الله : وقال هنا { للناس } ، وقال في القرآن { هدى للمتقين } ، وذلك{[2928]} عندي ، لأن هذا خبر مجرد ، وقوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ، ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس ، فسمي { هدى } لذلك ، وقال ابن فورك{[2929]} : التقدير هنا هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر ، و { الفرقان } : القرآن ، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل ، قال محمد بن جعفر ، فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام ، الذي جادل فيه الوفد ، وقال قتادة والربيع وغيرهما ، فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ونحوه ، و { الفرقان } يعم هذا كله ، وقال بعض المفسرين ، { الفرقان } هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل ، فيما قدم وحدث ، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل ، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز ، ثم التوراة والإنجيل ، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل ، كما فعلت هذه الكتب ، ثم توعد{[2930]} تعالى الكفار عموماً بالعذاب الشديد ، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة ، وعذاب الآخرة بالنار ، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران ، وقال النقاش : إلى اليهود ، كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم{[2931]} ، و { عزيز } ، معناه غالب ، وقد ذل له كل شيء ، والنقمة والانتقام ، معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك .
{ من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان }
{ مِنْ قَبْلُ } يتعلّق { بأنْزَلَ } ، والأحسن أن يكون حالاً أولى من التوراة والإنجيل ، و « هُدَى » حال ثانية . والمُضافُ إليه قبلُ محذوف مَنويٌّ مَعْنًى ، كما اقتضاه بناء قبل على الضم ، والتقدير من قبل هذا الزمان ، وهو زمان نزول القرآن .
وتقديم { مِنْ قبلُ } على { هدَى للناس } للاهتمام به .
وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهّم أنّ هُدى التوراةِ والإنجيلِ مستمرّ بعد نزول القرآن . وفيه إشارة إلى أنّها كالمقدّمات لِنزول القرآن ، الذي هو تمام مراد الله من البشر { إنّ الدينَ عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] فالهدى الذي سبقه غير تام .
و{ للناس } تعريفه إمّا للعهد : وهم الناس الذي خوطبوا بالكتابين ، وإمّا للاستغراق العُرفي : فإنّهما وإن خوطب بهما ناس معروفون ، فإنّ ما اشتملا عليه يَهتدي به كلّ من أراد أن يهتدي ، وقد تهوّد وتنصّر كثير ممّن لم تشملهم دعوة موسى وعيسى عليهما السلام ، ولا يدخل في العموم الناسُ الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ القرآن أبطل أحكام الكتابين ، وأما كون شرع مَنْ قَبْلَنَا شرعاً لنا عند معظم أهل الأصول ، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين ، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه .
والفرقان في الأصل مصدر فرَق كالشُكران والكُفران والبُهتان ، ثم أطلق على ما يُفرق به بين الحق والباطل قال تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا يومَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] وهو يوم بدر . وسمّي به القرآنُ قال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] والمراد بالفرقان هنا القرآن ؛ لأنّه يفرق بين الحق والباطل ، وفي وصفه بذلك تفضيل لِهديه على هدى التوراة والإنجيل ؛ لأنّ التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي ، لما فيها من البرهان ، وإزالة الشبهة . وإعادةُ قوله : { وأنزل الفرقان } بعد قوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } للاهتمام ، وليُوصَل الكلام به في قوله : { إن الذين كفروا بآيات اللَّه } [ آل عمران : 4 ] الآية أي بآياته في القرآن .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
استئناف بياني مُمَهّد إليه بقوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } لأنّ نفس السامع تتطلّع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل .
وشَمل قولُه : { الذين كفروا بآيات الله } المشركينَ واليهودَ والنصارى في مرتبة واحدة ، لأنّ جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن ، وهو المراد بآيات الله هنا لأنّه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنّه آيةٌ من آيات الله ؛ لأنّه مُعجزة . وعبّر عنهم بالموصول إيجازاً ؛ لأنّ الصلة تجمعهم ، والإيماء إلى وجه بناء الخَبَر وهو قوله : { لهم عذاب شديد } .
وعطف قوله : { والله عزيز ذو انتقام } على قوله : { إن الذين كفروا بآيات الله } لأنّه من تكملة هذا الاستئناف : لمجيئه مجيء التبيين لشدّة عذابهم ؛ إذ هو عذابُ عزيزٍ منتقم كقوله : { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } [ القمر : 42 ] .
{ والعزيز } تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة ( 209 ) : { فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم . } والانتقام : العقاب على الاعتداء بغضب ، ولذلك قيل للكاره : ناقم . وجيء في هذا الوصف بكلمة ( ذو ) الدالة على المِلك للإشارة إلى أنّه انتقام عن اختيار لإقامة مصالح العباد وليس هو تعالى مندفعاً للانتقام بدافع الطبع أو الحنق .