الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (4)

قوله تعالى : { مِن قَبْلُ } : متعلِّقٌ بأَنْزَل ، والمضافُ إليه الظرفُ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرهُ : مِنْ قبلِك ِأو من قبلِ الكتاب . والكتابُ غَلَب على القرآن كالثريا . وهو في الأصْلِ مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي : المكتوبَ ، وذكَر المنزَّلَ في قوله " نَزَّل عليك " ولم يذكره في قوله : { وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } تشريفاً لنبينا صلى الله عليه وسلم .

قوله : { هُدًى } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على المفعولِ من أجله ، والعاملُ فيه أنْزَل أي : أَنْزَلَ هذين الكتابين لأجلِ هداية . ويجوز أن يكونَ متعلقاً من حيث المعنى بنَزَّلَ وأنزل معاً ، وتكونُ المسألةُ من بابِ التنازع على إعمال الثاني ، والحذفُ من الأولِ تقديرُه : نَزَّلَ عليك له أي : للهدى ، فَحَذَفَه ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بالفعلين معاً تعلُّقاً صناعياً لا على وجه التنازع ، بل بمعنى أنه علةً للفعلين معاً ، كما تقول : " أكرمْتُ زيداً وضربْتُ عمراً إكراماً لك " يعني أن الإكرام علةٌ للإِكرامِ وللضرب .

والثاني : ان ينتصِبَ على الحالِ من التوراةِ والإنجيل ، ولم يُثنَّ لأنه مصدرٌ وفيه الأوجُه المشهورةُ من حَذْف المضافِ أي : ذوي هدىً أو على المبالغةِ بأَن جُعِلا نفسَ الهُدَى أو على جَعْلِهما بمعنى هاديين . وقيل : إنه حال من الكتاب والتوارة والإِنجيل ، وقيل : حالٌ من الإِنجيل فقط وحُذِف مِمَّا قبله لدلالة هذا عليه . وقال بعضُهم : تَمَّ الكلامُ عند قولِه تعالى : { مِن قَبْلُ } فَيُوقَفُ عليه ويُبْتَدَأُ قولِه { هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } أي : وأَنْزَل الفرقانَ هدىً للناس . وهذا التقديرُ غيرُ صحيحٍ لأنه يُؤدِّي إلى تقديم المعمولِ على حرفِ النسقِ وهو ممتنعٌ ، لو قلت : " قام زيد مكتوفةً وضُرِبَتْ هندٌ " تعني : " وضُرِبَت هند مكتوفةً " لم يَصِحَّ البتة فكذلك هذا .

قوله : { لِّلنَّاسِ } يُحْتمل أن يتعلَّقَ بنفسِ " هُدَى " لأنَّ هذه المادة تتعدَّى باللامِ كقولِه تعالى : { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لهدىً .

قوله : { وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } يُحْتَمل أن يرادَ به جميعُ الكتب السماوية ، ولم يُجمع لأنه مصدرٌ بمعنى الفَرْق كالغفران والكفران ، وهو يَحْتملُ أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع الفاعلِ أو المفعول والأولُ أظهرُ . وقال الزمخشري : " أو كَرَّر/ ذِكْرَ القران بما هو نعتٌ له ومُدِحَ مِنْ كونِه فارقاً بين الحقِّ والباطل بعد ما ذكَره باسم الجنس تعظيماً لشأنِه وإظهاراً لفضلِه " . قلت : قد يعتقد معتقدٌ أنّ في كلامِه هذا رَدَّاً لقولِه الأول حيث قال : " إن " نَزَّل " يقتضي التنجيم و " أنزل " يقتضي الإنزال الدَّفْعيَّ ، لأنه جَوَّز أن يُراد بالفرقان القرآنُ ، وقد جاء معه " أنزل " ، ولكن لا ينبغي أَنْ يُعْتَقد ذلك لأنه لم يَقُل : إنَّ " أَنْزل " للإِنزال الدفعيِّ فقط ، بل يقول إن " نَزَّل " بالتشديد يقتضي التفريق و " أَنْزل " يحتمل ذلك ويَحْتمل الإنزالَ الدفعيَّ .

قوله : { لَهُمْ عَذَابٌ } يَحْتمل أنْ يرتفع " عذابٌ " بالفاعليةِ بالجارِّ قبلَه لوقوعه خبراً عن " إنَّ " ، ويُحْتمل أن يرتفع على الابتداء ، والجملةُ خبرٌ " إنَّ " والأولُ أَوْلَى ، لأنه من قبيلِ الإِخبار بما يَقْرُبُ من المفردات . وانتقام : افتعال من النِّقْمة وهي السَّطْوَةُ والتسلطُ ، ولذلك عَبَّر بعضُهم عنها بالمعاقبة يقال : نَقَم ونَقِمَ ، بالفتح وهو الأفصحُ وبالكسرِ ، وقد قُرىء بهما ، وسيأتي مزيدٌ بيانٍ في المائدة .