{[14501]}ولما لم يكن إنزالهما مستغرقاً للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معرياً من التقييد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن{[14502]} { من قبل } أي من قبل هذا الوقت إنزالاً انقضى{[14503]} أمره ومضى زمانه حال كون{[14504]} الكل { هدى } أي بياناً ، ولذا{[14505]} عم فقال : { للناس } وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب ، فلذا{[14506]} خص المتقين ؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل : كل آمن بالله لأنه متفرد{[14507]} بالألوهية ، لأنه متفرد بالحياة ، لأنه متفرد{[14508]} بالقيومية ؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته{[14509]} .
ولما كانت مادة " فرق " للفصل{[14510]} عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء{[14511]} الإعجاز ، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالاً تنبيهاً على علو{[14512]} رتبته عنهما بمقدار{[14513]} علو رتبة المتقين الذين هو هدى لهم ، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى : { وأنزل الفرقان * } أي الكتاب المصاحب{[14514]} للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفة السادة المرجوع إليهم عند الملمات ، المقترن بالمعجزات الفارقة{[14515]} بين الحق{[14516]} والباطل ، وسترى هذا المعنى إن شاء الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا ؛ فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع{[14517]} الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة ، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى{[14518]} الدعاء به{[14519]} ختام البقرة . قال الحرالي : فكان الفرقان جامعاً لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل{[14520]} جمعاً يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده{[14521]} للتقوى{[14522]} التي هي تهيؤ لتنزل{[14523]} الكتاب { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا }{[14524]}[ الانفال : 29 ] فكان الفرقان{[14525]} أقرب الكتب للكتاب الجامع ، فصار التنزيل في ثلاث رتب : رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع ، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين{[14526]} الظاهر والباطن ، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع التقاء ظاهر التوراة بباطن الإنجيل{[14527]} انتهى .
ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها{[14528]} أنه لما كان خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب{[14529]} النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت ، وأن الخلق أخذ في النقصان ، وهذا العالم أشرف على الزوال ، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وكان هذا{[14530]} النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقاً ، وكان مبعوثاً مع نفس الساعة ، وكان نزوله هو في آخر الزمان علماً على الساعة ، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه{[14531]} بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه ، وأن يكون ولا شيء معه كما كان ، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان ، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم{[14532]} قد{[14533]} آن ؛ ويوضح{[14534]} ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاة والسلام مخلوقاً من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء ، وهو غالب على كل ما جاوره{[14535]} ، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم ، فصدر أول سورة ذكر فيها{[14536]} خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام{[14537]} والدلائل ، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلاً على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه{[14538]} ، وأن تصدر سورة كل بما{[14539]} صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق .
وقال ابن الزبير ما حاصله : إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات : إحداها{[14540]} ما تبين في صدر السورة مما هو{[14541]} إحالة{[14542]} على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها{[14543]} ، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم ، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزل{[14544]} نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه ، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين ، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة ، وذكر من تعنت{[14545]} بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة ، وأنزل بعدها الإنجيل ، وأن كل ذلك هدى لمن وفق ، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم
{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً{[14546]} }[ الإسراء : 15 ] ؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار{[14547]} قوله سبحانه وتعالى{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم }[ آل عمران : 59 ] انتهى .
ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق{[14548]} وهو الإيمان علم{[14549]} أن لمخالفي{[14550]} أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور ، فاتصل بذلك قوله : { إن الذين كفروا } أي{[14551]} غطوا ما دلتهم{[14552]} عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها ، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه { بآيات الله } المستجمع{[14553]} لصفات الكمال إقبالاً منهم على ما ليس له أصلاً صفة كمال ، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله ، قال : فكما{[14554]} بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى . { لهم عذاب شديد } كما تقتضيه صفتا العزة{[14555]} والنقمة ، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب . قال الحرالي{[14556]} : ففي إشعاره{[14557]} أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء{[14558]} ذلك الكفر ، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف{[14559]} انتهى . والآية على تقدير سؤال ممن كأنه{[14560]} قال : ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة ؟ أو يقال : إنه لما قال : { وأنزل الفرقان } [ آل عمران : 4 ] أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة{[14561]} فقال{[14562]} : وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى لما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين ، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة ، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى ، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد إليه حق{[14563]} ، ودل على ذلك لمصادقته{[14564]} لما قبله من الكتب .
ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبساً ولا شبهة أنتج ذلك قطعاً أن الذين{[14565]} قدم أول تلك أنهم{[14566]} أصروا على الكفر به خاسرون ، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال : { إن الذين } مؤكداً مظهراً لما كان من حقه الإضمار{[14567]} ، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل{[14568]} عليهم به من الآيات ؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به و{[14569]}عبر به فقال : عاطفاً على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه : فالله سبحانه وتعالى عالم بما له من القيومية بجميع أحوالهم : { والله } أي الملك العظيم{[14570]} مع كونه رقيباً { عزيز } لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء { ذو انتقام * } أي تسلط وبطش شديد بسطوة{[14571]} . قال الحرالي : فأظهر وصف العزة موصولاً بما أدام من انتقامه بما يعرب{[14572]} عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام ، فكأن في إشعاره دواماً لهذا الانتقام{[14573]} بدوام أمر{[14574]} الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر ، وكان في طي إشعار{[14575]} الانتقام أحد قسمي إقامة القيومية في طرفي النقمة والرحمة ، فتقابل{[14576]} هذان الخطابان إفصاحاً وإفهاماً من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحاً فافهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة{[14577]} ، فإنه كما أنزل الكتب{[14578]} هدى أنزل متشابهها فتنة ، فتعادل الإفصاحان{[14579]} والإلاحتان ، وتم{[14580]} بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى . وما أحسن إطلاق العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم ، وفي الآخرة{[14581]} تصديقاً لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم ، وتهديداً لمن تُرك كثير من هذه السورة بسببهم{[14582]} وهم وفد نصارى نجران . يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فتارة يقولون : هو الله ، وتارة يقولون : هو ابن الله ، وتارة يقولون ، هو{[14583]} ثالث ثلاثة ، وكان بعضهم عالماً بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن{[14584]} أحمد الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه : فلم لا تتبعه وأنت تعلم أن عيسى أمر باتباعه ؟ فقال له : لو اتبعناه لسلبنا{[14585]} ملك الروم جميع ما ترى من النعمة ، وكان ملوك الروم قد أحبوهم{[14586]} لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى{[14587]} عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية{[14588]} وغيرها ، واستمر سبحانه وتعالى يؤكد{[14589]} استجابته{[14590]} لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في نحو قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم }{[14591]}[ آل عمران : 10 ] { قل للذين كفروا ستغلبون }{[14592]}[ آل عمران : 12 ] إلى أن ختم السورة بشرط{[14593]} الاستجابة فقال :
{ اصبروا وصابروا }{[14594]}[ آل عمران : 200 ] ، ثم قال توضيحاً لما قدم في آية الكرسي من{[14595]} إثبات العلم ، واستدلالاً على وصفه سبحانه وتعالى بالقيومية التي فارق بها كل من يدعي فيه الإلهية مشيراً بذلك إلى الرد على من جادل في عيسى عليه الصلاة والسلام{[14596]} فأطراه بدعواه{[14597]} أنه إله ، وموضحاً لأن كتبه هدى وأنه عالم بالمطيع والعاصي بما تقدم أنه أرشد العطف في { والله عزيز } إلى تقديره ، ومعللاً لوصفه بالعزة والقدرة لما يأتي في سورة طه من أن تمام العلم يستلزم شمول القدرة :