السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (4)

{ من قبل } أي : قبل تنزيل القرآن ، واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أو لا يدخلانهما لكونهما أعجميين فلا يناسب كونهما مشتقين ، ورجح هذا الزمخشري وقال : قالوا لأنّ هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين وقوله تعالى : { هدى } حال بمعنى هاديين من الضلالة ولم يثنه ؛ لأنه مصدر { للناس } أي : على العموم إن قلنا : متعبدون بشرع من قبلنا وهو رأي وإلا فالمراد بالناس قومهما وإنما عبر في التوراة والإنجيل بأنزل وفي القرآن بنزل المقتضى للتكرير ؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلافه . وقيل : إن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة ومن سماء الدنيا منجماً في ثلاث وعشرين سنة فحيث عبر فيه بأنزل أريد الأول أو ينزل أريد الثاني .

فإن قيل : يردّ الأوّل بقوله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } وبقوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } ( البقرة ، 4 ) وبقوله تعالى : { الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب } ( الكهف ، 1 ) وبقوله تعالى : { وبالحق أنزلناه } ( الإسراء ، 105 ) ويرد الثاني بقوله تعالى : { وقال الذين كفروا : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } ( الفرقان ، 32 ) أجيب : بأن القول بذلك جرى على الغالب { وأنزل الفرقان } أي : الكتب الفارقة بين الحق والباطل وذكره بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها ، فكأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ولم يجمع ؛ لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران وقيل : القرآن وكرّر ذكره بما هو نعت له مدحاً وتعظيماً وإظهاراً لفضله من حيث أنه يشاركهما في كونه وحياً منزلاً وتمييز بأنه معجز يفرق به بين المحق والمبطل .

وقيل : أراد الكتاب الرابع وهو الزبور كما قال تعالى : { وآتينا داود زبوراً } ( النساء ، 163 ) قال الزمخشريّ : وهو ظاهر ولما قرّر سبحانه جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال : { إنّ الذين كفروا بآيات الله } من القرآن وغيره { لهم عذاب شديد } بسبب كفرهم { والله عزيز } أي : غالب على أمره فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده { ذو انتقام } ممن عصاه والنقمة عقوبة المجرم أي : يعاقبه عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد .