31- يا بني آدم : خذوا زينتكم من اللباس المادي الذي يستر العورة ، ومن اللباس الأدبي وهو التقوى ، عند كل مكان للصلاة ، وفي كل وقت تؤدون فيه العبادة ، وتمتعوا بالأكل والشرب غير مسرفين في ذلك ، فلا تتناولوا المحرم ، ولا تتجاوزوا الحد المعقول من المتعة ، إن الله لا يرضى عن المسرفين{[66]} .
قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } ، قال أهل التفسير : كان بنو عامر يطوفون بالبيت عراة ، فأنزل الله عز وجل : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } ، يعني الثياب ، قال مجاهد : ما يواري عورتك ولو عباءة ، قال الكلبي : الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد لطواف و صلاة .
قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } ، قال الكلبي : كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسماً ، يعظمون بذلك حجهم . فقال المسلمون : نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله ، فأنزل الله عز وجل : ( وكلوا ) يعني اللحم والدسم واشربوا .
قوله تعالى : { ولا تسرفوا } ، بتحريم ما أحل الله لكم من اللحم والدسم .
قوله تعالى : { إنه لا يحب المسرفين } ، الذين يفعلون ذلك ، قال ابن عباس : كل ما شئت ، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان ، سرف ومخيلة . قال علي بن الحسين بن واقد : قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال : { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } .
{ 31 } { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }
يقول تعالى - بعد ما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أي : استروا عوراتكم عند الصلاة كلها ، فرضها ونفلها ، فإن سترها زينة للبدن ، كما أن كشفها يدع البدن قبيحا مشوها .
ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن ، ففي هذا الأمر بستر العورة في الصلاة ، وباستعمال التجميل فيها ونظافة السترة من الأدناس والأنجاس .
ثم قال : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } أي : مما رزقكم اللّه من الطيبات { وَلَا تُسْرِفُوا } في ذلك ، والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات الذي يضر بالجسم ، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل والمشارب واللباس ، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام .
{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } فإن السرف يبغضه اللّه ، ويضر بدن الإنسان ومعيشته ، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات ، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب ، والنهي عن تركهما ، وعن الإسراف فيهما .
{ 32 - 33 } { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء ثالثا إلى بنى آدم أمرهم فيه بالتمتع بالحلال ، وبزينة الله التي أخرجها لعباده بدون إسراف أو تبذير فقال - تعالى - : { يابني ءَادَمَ . .
المعنى : عليكم يا بنى آدم أن تتجملوا بما يستر عورتكم ، وأن تتحلوا بلباس زينتكم كلما صليتم أو طفتم ، واحذروا أن تطوفوا بالبيت الحرام وأنتم عرايا .
قال القرطبى : " يا بنى آدم هو خطاب لجميع العالم ، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا ، فإنه عام في كل مسجد للصلاة ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " .
وقال ابن عباس : " كان بعض العرب يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل . يقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها " . فأنزل الله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
ثم أمرهم - سبحانه - أن يتمتعوا بالطيبات بدون إسراف أو تقتير فقال : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } .
أى : كلوا من المآكل الطيبة ، واشربوا المشارب الحلال ولا تسرفوا لا في زينتكم ولا في مأكلكم أو مشربكم . لأنه - سبحانه - يكره المسرفين .
قال الإمام ابن كثير : " قال بعض السلف : جمع الله الطب في نصف آية في قوله : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } " وقال البخارى : قال ابن عباس : " كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة " .
وقد كان السلف الصالح يقفون بين يدى الله في عبادتهم وهم في أكمل زينة ، فهذا - مثلا - الإمام الحسن بن على ، كان إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه فقيل له ؛ يابن بنت رسول الله لم تلبس أجمل ثيابك . فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، فأنا أتجمل لربى ، لأنه هو القائل : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
وقال الكلبى : " كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا كفعلهم فأنزل - تعالى - : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } .
هذا خطاب عام لجميع العالم وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها ، والزينة ها هنا الثياب الساترة قاله مجاهد والسدي ، وقال طاوس : الشملة من الزينة .
قال القاضي أبو محمد : ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به مستعملة الخيلاء ، و { عند كل مسجد } عند كل موضع سجود فهي إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها هذا هو مهم الأمر ، ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها ، ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة وغير ذلك ، وذكر مكي حديثاً أن معنى { خذوا زينتكم } صلوا في النعال ، وما أحسبه يصح .
وقوله تعالى : { وكلوا واشربوا } نهي عما كانوا التزموه من تحريم اللحم والودك في أيام الموسم ، قال السدي وابن زيد ، وتدخل مع ذلك أيضاً البحيرة والسائبة ونحو ذلك ، وقد نص على ذلك قتادة وقال إن البحيرة وما جانسها هي المراد بقوله تعالى : { والطيبات من الرزق } ، وقوله تعالى : { ولا تسرفوا } معناه ولا تفرطوا ، قال أهل التأويل : يريد ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرم الله عز وجل ، قال ابن عباس : ليس في الحلال سرف إنما السرف في ارتكاب المعاصي .
قال القاضي أبو محمد : يريد في الحلال القصد ، واللفظ يقتضي النهي عن السرف مطلقاً فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه ، ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن ، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه ، مثل ذلك أن يفرط الإنسان في شراء ثياب ونحوها ويستنفد في ذلك جل ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ونحوه ، فالله عز وجل لا يحب شيئاً من هذا ، وقد نهت الشريعة عنه ، ولذلك وقف النبي عليه السلام بالموصي عند الثلث ، وقال بعض العلماء : لو حط الناس إلى الربع لقول النبي عليه السلام «والثلث كثير » ، وقد قال ابن عباس في هذه الآية ، أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفاً أو مخيلة .
وأمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يسألهم عمن حرم ما أحل الله على جهة التوبيخ والتقرير وليس يقتضي هذا السؤال جواباً ، وإنما المراد منه التوقيف على سوء الفعل ، وذكر بعض الناس أن السؤال والجواب جاء في هذه الآية من جهة واحدة وتخيل قوله : { قل هي للذين آمنوا } جواباً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نظر فاسد ليس ذلك بجواب السؤال ولا يقتضي هذا النوع من الأسئلة جواباً .
إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام ، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] .
وهذه الجملة تتنزّل ، من التي بَعدها ، وهي قوله : { قل من حرم زينة الله } [ الأعراف : 32 ] منزلة النّتيجة من الجدل ، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى ، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها .
فالمقصد من قوله : { خذوا زينتكم } إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة ، وعند مساجد معيّنة ، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافاً تجعله على فرجها وتقول :
اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه *** وما بَدا منه فلا أُحِلُّه
وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس ، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثياباً فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ ، وعنه : أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة . وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوباً ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُرياناً ، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى : اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم :
كفى حزناً كَري عليه كأنّه *** لقى بين أيدي الطائفين حَرامُ
وفي « الكشاف » ، عن طاووس : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا : لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها ، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه ، عام حجّته سنة تسع ، أن ينادي في الموسم : " أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان " .
وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم ، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتاً ، ولا يأكلون دَسماً ، ونسب في « الكشاف » ذلك إلى بني عامر ، وكان الحُمْس يقولون : لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا ، وفي « تفسير الطبري » عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمْنها . وفيه عن قتادة : أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .
فالأمر في قوله : { خذوا زينتكم } للوجوب ، وفي قوله : { وكلوا واشربوا } للإباحه لبني آدم الماضين والحاضرين .
والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم ، وامتن به عليهم ، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً . وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر . فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] بعد قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجباً . فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش ، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ ، وهو ما يستْر العورة ، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالاً لتحريمه ، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالاً للتّحريم ، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم .
وقوله : { عند كل مسجد } تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى ، وقد تقدّم نظيره في قوله : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 29 ] . وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفاً .
والإسراف تقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) ، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي : ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة .
وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله : { قل من حرم زينة الله } إلى قوله { والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف ، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم ، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً : { قل أمر ربي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] فإن ترك السّرف من معنى العدل .
وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } تذييل ، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام .