وأما قوله { لا تدركه الأبصار } ، فاعلم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو : الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به ، والرؤية : المعاينة ، وقد تكون الرؤية بلا إدراك ، قال الله تعالى في قصة موسى { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا } [ الشعراء :61 ] وقال { لا تخاف دركاً ولا تخشى } [ طه :77 ] ، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية ، فالله عز وجل يجوز أن يرى من غير إدراك وإحاطة ، كما يعرف في الدنيا ، ولا يحاط به ، قال الله تعالى : { لا يحيطون به علماً } [ طه :110 ] فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم ، قال سعيد بن المسيب : لا تحيط به الأبصار ، وقال عطاء : كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به ، وقال ابن عباس ومقاتل : لا تدركه الأبصار في الدنيا ، وهو يرى في الآخرة ، قوله تعالى : { وهو يدرك الأبصار } ، أي لا يخفى على الله شيء ولا يفوته .
قوله تعالى : { وهو اللطيف الخبير } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : اللطيف بأوليائه ، الخبير بهم ، وقال الأزهري : معنى : { اللطيف } الرفيق بعباده ، وقيل : اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق ، وقيل : اللطيف الذي ينسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا ، واصل اللطف دقة النظر في الأشياء .
{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لعظمته ، وجلاله وكماله ، أي : لا تحيط به الأبصار ، وإن كانت تراه ، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم ، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية ، بل يثبتها بالمفهوم . فإنه إذا نفى الإدراك ، الذي هو أخص أوصاف الرؤية ، دل على أن الرؤية ثابتة .
فإنه لو أراد نفي الرؤية ، لقال " لا تراه الأبصار " ونحو ذلك ، فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة ، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة ، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم .
{ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } أي : هو الذي أحاط علمه ، بالظواهر والبواطن ، وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة ، والخفية ، وبصره بجميع المبصرات ، صغارها ، وكبارها ، ولهذا قال : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبرته ، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا ، والخبايا والبواطن .
ومن لطفه ، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه ، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد ، ولا يسعى فيها ، ويوصله إلى السعادة الأبدية ، والفلاح السرمدي ، من حيث لا يحتسب ، حتى أنه يقدر عليه الأمور ، التي يكرهها العبد ، ويتألم منها ، ويدعو الله أن يزيلها ، لعلمه أن دينه أصلح ، وأن كماله متوقف عليها ، فسبحان اللطيف لما يشاء ، الرحيم بالمؤمنين .
وقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } جملة مستأنفة إما مؤكدة لقوله { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فيجب أن يخاف ويحذر ، وأما مؤكدة أعظم تأكيد لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليمه عما وصفه به المشركون ، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعبودة وهى أبصار أهل الدنيا لجلاله وكبريائه وعظمته . فكيف يكون له ولد ؟
والإدراك : اللحاق والوصل إلى الشىء والإحاطة به . والأبصار جمع بصر يطلق - كما قال الراغب - على الجارحة الناظرة وعلى القوة التى فيها .
والمعنى : لا تحيط بعظمته وجلاله على ما هو عليه - سبحانه - أبصار الخلائق ، أو لا تدركه الأبصار إدراك إحاطة بكنهه وحقيقته فإن ذلك محال والإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية التى هى مجرد المعاينة ، فنفيه لا يقتضى نفى الرؤية ، لأن نفى الأخص لا يقتضى نفى الأعم فأنت ترى الشمس والقمر ولكنك لا تدرك كنههما وحقيقتهما .
هذا : وهناك خلاف مشهور بين أهل السنة والمعتزلة فى مسألة رؤية الله - تعالى - فى الآخرة .
أما أهل السنة فيجيزن ذلك ويستشهدون بالكتاب والسنة ، فمن الكتاب قوله - تعالى - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ومن السنة ما رواه الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلى قال : كنا جلوساً عند النبى صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون فى رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) " .
قال الإمام ابن كثير : تواترت الأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله فى الدار الآخرة فى العرصات وفى روضات الجنات " .
أما المعتزلة فيمنعون رؤية المؤمنين لله - تعالى - فى الآخرة ، واستدلوا فيما استدلوا بهذه الآية ، وقالوا : إن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين ما أدركته ببصرى ورأيته إلا فى اللفظ .
والذى نراه أن رأى أهل السنة أقوة لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق ، فقد تكفلت بذلك كتب علم الكلام .
وقوله { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } أى : وهو يدرك القوة التى تدرك بها المبصرات . ويحيط بها علما ، إذ هو خالق القوى والحواس .
وقوله { وَهُوَ اللطيف الخبير } أى : هو الذى يعامل عباده باللطف والرأفة وهو العليم بدقائق الأمور وجلياتها .
أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة ، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس ، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلاً ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز ، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل ، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود ، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفاً ولا محدوداً ، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول : مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ] وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة ، وذكر هذا المذهب لمالك فقال : فأين هم عن قوله تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطفّفين : 15 ] .
قال القاضي أبو محمد : فقال بدليل الخطاب{[5038]} ذكره النقاش ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله : إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر{[5039]} ، ونحوه من الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها ، وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحالة ذلك بآراء مجردة ، وتمسكوا بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا ، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها ، وانفصال آخر ، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية ، ونقول{[5040]} : إنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه ، وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته ، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل ، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته ، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله { وهو يدرك الأبصار } ويحسن معناه ، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي ، فرقوا بين الرؤية والإدراك ، وأما الطبري رحمه الله ففرق بين الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنَّا لمدركون{[5041]} فقال إنهم رأوهم ولم يدركوهم .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا كله خطأ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو بإشتراك ، وقال بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة ، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة ، قال : وقال بعضهم : إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين ، أي إنه لا تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه الأقوال كلها ضعيفة ودعاو لا تستند إلى قرآن ولا حديث ، و { اللطيف } المتلطف في خلقه واختراعه وإتقانه ، وبخلقه وعباده و { الخبير } المختبر لباطن أمورهم وظاهرها .