{ يوم يخرجون من الأجداث } أي : القبور ، { سراعاً } إلى إجابة الداعي ، { كأنهم إلى نصب } قرأ ابن عامر ، وحفص : { نصب } بضم النون والصاد ، وقرأ الآخرون بفتح النون وسكون الصاد ، يعنون إلى شيء منصوب ، يقال : فلان نصب عيني . وقال الكلبي : إلى علم وراية . ومن قرأ بالضم ، قال مقاتل والكسائي : يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله . قال الحسن : يسرعون إليها أيهم يتسلمها أولاً ، { يوفضون } أي : يسرعون .
ثم ذكر حال الخلق حين يلاقون يومهم{[1235]} الذي يوعدون ، فقال : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ } أي : القبور ، { سِرَاعًا } مجيبين لدعوة الداعي ، مهطعين إليها { كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي : [ كأنهم إلى علم ] يؤمون ويسرعون{[1235]} أي : فلا يتمكنون من الاستعصاء للداعي ، والالتواء لنداء المنادي ، بل يأتون أذلاء مقهورين للقيام بين يدي رب العالمين .
وقوله { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً } بدل من { يَوْمَهُمُ } . والأجداث جمع جدث - بفتح الجيم الدال - وهو القبر . أى : اتركهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم المحتوم . وهو اليوم الذى يخرجون فيه من قبورهم مسرعين إلى الداعى .
{ كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } والنصب - بضمتين - حجارة كانوا يعظمونها . وقيل : هى الأصنام ، وسميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ويقيمونها للعبادة .
{ يُوفِضُونَ } أى : يسرعون . يقال : وفَض فلان يفِض وفْضاً - كوعد - إذا أسرع فى سيره . أى : يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعى ، مستبقين إليه ، كما كانوا فى الدنيا يسرعون نحو أصنامهم وآلهتهم لكى يستلموها ، ويلتمسوا منها الشفاعة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن ذلك اليوم الذي يعذب فيه كفار مكة، فقال تبارك اسمه: {يوم يخرجون من الأجداث} يعني القبور.
{كأنهم إلى نصب يوفضون} يقول كأنهم إلى علم يسعون إليه قد نصب لهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يَوْمَ يَخْرُجُونَ "بيان وتوجيه عن اليوم الأوّل الذي في قوله:"يَوْمُهُمُ الّذِي يوعَدُونَ" وتأويل الكلام: حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدونه، يوم يخرجون مِن الأجداث وهي القبور: واحدها جدث.
"سِرَاعا كأنّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ" كأنهم إلى عَلَم قد نُصب لهم يستبقون.
وأما قوله: "يُوفِضُونَ" فإن الإيفاض: هو الإسراع.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نصب] قرئ بنصب النون وجزم الصادر، وهو اسم العلامة كالعرض وأشباهه.
وقرئ بضم [فسكون] 3 وهم اسم الصنم.
فإن كان على العلامة، فمعناه أنهم يسارعون في ذلك الوقت إلى إجابة الداعي مسارعة من يسرع في هذه الدنيا إلى العرض والعلامة المنصوبة. كذا قال بعض أهل التأويل.
وذكر عن الكلبي: {إلى نصب يوفضون} إلى علم يسعون. وقال قتادة: إلى علم يستبقون، وعن مجاهد: إلى علم ينطلقون.
فإن كان على الثاني فمعناه أنهم يسرعون إلى إجابة الداعي في ذلك كسرعتهم إلى عبادة النصب عند خوفهم فوت عبادتها وعند اجتماع عبّادها [عندما يبتدرون] نصبهم حتى يستلموها.
ومنهم من ذكر أن النصب يرفع النون والصاد، هي الأعراض التي يستبقون إليها. ومن تأول هذا فهو يجعل النصب ههنا جمع النصب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
النصب: ما نصب للإنسان فهو يقصد مسرعاً إليه من علم أو بناء أو صنم لأهل الأصنام. وقد كثر استعمال هذا الاسم في الأصنام حتى قيل لها الأنصاب، ويقال لشبكة الصائد نصب. وقال أبو العالية {إلى نصب يوفضون} معناه: إلى غايات يستبقون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ما بعد النفخة الثانية أعظمه وأهوله، أبدل منه قوله: {يوم يخرجون} أي هؤلاء الذين يسألون عنه سؤال استهزاء ويستبعدونه، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول على طريقة كلام القادرين تدل على أنه مما هو في غاية السهولة {من الأجداث} أي القبور التي صاروا بتغيبهم فيها تحت وقع الحافر والخف، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ، فإن الجدث القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم {سراعاً} أي نحو صوت الداعي. ولما كانت عادة الإنسان الإسراع إلى ما يقصده من الأعلام المنصوبة، وعادتهم -هم بالخصوص- المبادرة إلى الأنصاب التي يبعدونها ما هي عليه من الخساسة خفة منهم في العلوم وطيشاً في الحلوم قال: {كأنهم إلى نصب} أي علم منصوب مصدر بمعنى المفعول كما تقول: هذا نصب عيني وضرب الأمير -هذا على قراءة الجماعة بالفتح، وعلى قراءة ابن عامر وحفص بالضم: إلى علم أو شيء يعبدونه من دون الله على ما فيه من الداء القاتل والبلاء، أو حجر يذبحون عليه، قال في الجمع بين العباب والمحكم: النَصْب والنُصْب والنُصُب: الداء والبلاء: والنُصُب كل ما نصب فجعل علماً، والنَصْب والنَصَب: العلم المنصوب، والنُصْب والنُصُب: كل ما عبد من دون الله، والجمع أنصاب، والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح عليها لغير الله، وانصاب الحرم: حدوده،
{يوفضون} أي يعجلون عجلة من هو ذاهب إلى ما يسره حتى كأنه يطرد إليه كما كانوا يسرعون إلى أنصابهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 42]
وعندما يبلغ السياق هذا المقطع، بعد تصوير هول العذاب في ذلك اليوم المشهود؛ وكرامة النعيم للمؤمنين، وهوان شأن الكافرين. يتجه بالخطاب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب، ويرسم مشهدهم فيه، وهو مشهد مكروب ذليل: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون. يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون).. وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم، ومن التهديد لهم، ما يثير الخوف والترقب. وفي مشهدهم وهيئتهم وحركتهم في ذلك اليوم ما يثير الفزع والتخوف. كما أن في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب اعتزازهم بأنفسهم واغترارهم بمكانتهم.. فهؤلاء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه.. وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا. لقد كانوا يسارعون إلى الأنصاب في الأعياد ويتجمعون حولها. فها هم أولاء يسارعون اليوم، ولكن شتان بين يوم ويوم!...