153- يسألك - أيها الرسول - أهل الكتاب من اليهود متعنتين ، أن تقيم دليلاً على صدق نبوتك ، فتأتيهم بكتاب خاص ، ينزل عليهم من السماء بصدق رسالتك ، ويدعوهم إلى الإيمان بك وطاعتك ، فإن استكثرت ما سألوا فلا تعجل ، فقد تعنت أسلافهم فسألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله عيانا فعاقبهم على تعنتهم وظلمهم بصاعقة أهلكتهم ثم اذكر لهؤلاء جرماً أشد وأفظع ، وهو أنهم اتخذوا العجل إلهاً لهم من دون خالقهم ، بعد ما عاينوا الأدلة التي أظهرها موسى لفرعون وقومه ثم وسعهم عفو الله بعد إنابتهم إليه ، وأيد الله موسى بالحُجة الواضحة والكلمة النافذة .
قوله تعالى : { يسألك أهل الكتاب } الآية ، وذلك أن كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء ، كما أتى به موسى عليه السلام ، فأنزل الله عليه : { يسألك أهل الكتاب } .
قوله تعالى : { أن تنزل عليهم كتابا من السماء } . وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكم واقتراح ، لا سؤال انقياد ، والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد .
قوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } أي : أعظم من ذلك ، يعني : السبعين الذين خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل .
قوله تعالى : { فقالوا أرنا الله جهرة } أي : عياناً ، قال أبو عبيدة معناه : قالوا جهرة أرنا الله .
قوله تعالى : { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل } . يعني إلهاً .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك } ، ولم نستأصلهم ، قيل : هذا استدعاء إلى التوبة معناه : أن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم ، فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم .
قوله تعالى : { وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } أي : حجةً بينةً من المعجزات ، وهي الآيات التسع .
هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح ، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم . وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل ، وهذا غاية الظلم منهم والجهل ، فإن الرسول بشر عبد مدبر ، ليس في يده من الأمر شيء ، بل الأمر كله لله ، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول ، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم ، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا }
وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا ، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة ، بل ولا شبهة ، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه ؟
بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }
فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم ، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به . من سؤالهم له رؤية الله عيانا ، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه ، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من الأسئلة المتعنتة التى كان اليهود يوجهونها إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومن النعم التى أنعم - سبحانه - بها عليهم ومن المنكرات التى قالوها وفعلوها ، ومن العقوبات التى عاقبهم الله بها بسب ظلمهم وفسوقهم . . استمع إلى القرآن وهو يحكى كل ذلك فيقول : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب . . . أَجْراً عَظِيماً } .
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ( 153 ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 154 ) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( 155 ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( 156 ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( 157 ) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 158 ) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( 159 ) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ( 160 ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 161 ) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ( 162 )
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } . . الخ ذكروا روايات منها : ما أخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب القرطى قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله فقالوا : يا محمد ، إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا أنت بالألواح من عند الله حتى نصدقك . فأنزل الله - تعالى - { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } . إلى قوله { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } وعن السدى : قالت اليهود : يا محمد ، إن كنت صادقا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى .
وعن قتادة : أنهم سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا ، تأمر بتصديقه واتباعه .
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، بدليل سياق الأيات الكريمة التى ذكرت أوصافا تنطبق عليهم ، وبدليل ما ذكرناه فى سبب نزول الآيات .
والمعنى يسألك اليهود يا محمد على سبيل التعنت والعناد ، أن تنزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا جملة كما جاء موسى لآبائهم بالتوراة مكتوبة فى الألواح جملة . أو يسألونك أن تنزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا من السماء تأمرهم بتصديقك ، وسؤالهم هذا مقصدهم من ورائه التعنت والجحود ، ولو كانوا يريدون الإِيمان حقا لما وجهوا إليك هذه الأسئلة المتعنتة ؛ لأن الأدلة القاطعة قد قامت على صدقك .
وعبر بالمضارع فى قوله { يَسْأَلُكَ } لقصد استحضار حالتهم العجيبة فى هذا السؤال ، حتى لكأن السامع يراهم ، وللدلالة على تكرار أسئلتهم وتجددها المرة تلو الأخرى بدون حياء أو خجل .
وقوله : { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً } بيان للون من رذائلهم وقبائحهم ، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى وسوء أدب .
والفاء فى قوله { فَقَدْ سَأَلُواْ } معطوفة على جملة محذوفة والتقدير : لا تبتئس يا محمد من أقوال هؤلاء اليهود ، ولا تهتهم بأسئلتهم ، فتلك سنشنة قديمة معروفة عن آبائهم ، فقد سأل آباؤهم موسى أسئلة أكبر من ذلك فقالوا له : أرنا الله جهرة أى رؤية ظاهرة بحيث نعاينه ونشاهده بأبصارنا ويطلب إلينا الإِيمان بك . ويصح أن تكون الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر ، وإليه أشار صاحب الكشاف بقوله : { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك } ، جواب لشرط مقدر معناه ( إن استكبرت ما سألوك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ) وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم فى أيام مموسى وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم ، وراضين بسؤالهم . ومضاهين لهم فى التعنت .
أى : أن حاضر هؤلاء اليهود الذين يعيشون معك يا محمد كماضى آبائهم الأقدمين ، وأخلاق الأبناء صورة من أخلاق الآباء ، وجميعهم لا يبغون من سؤالهم الاهتداء إلى الحق وإنما يبغون إعنات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - والإِساءة إليهم .
والفاء فى قوله : { فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً } تفسيرية كما فى قولهم : توضأ فغسل وجهه . إذا أظهر ماءها . وجهر الشئ : كشفه ، وجهر الرجل : رآه بلا حجاب .
أى : أرنا الله جهارا عيانا بحاسة البصر فيكون قوله { جَهْرَةً } مفعولا مطلقا ، لأن لفظ { جَهْرَةً } نوع من مطلق الرؤية فيلاقى عامله فى الفعل .
ويصح أن يكون حالا من المفعول الأول أى : أرنا الله مجاهررين معاينين وقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ } بيان للعقوبة التى حلت بهم نتيجة سوء أدبهم وجرأتهم على خالقهم وعلى أنبيائهم .
والصاعقة - كما يقول ابن جرير - : كل أمر هائل رآه الرائى أو عاينه أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل صوتا كان ذلك أو نارا أو زلزلة أو رجفة .
وقال الراغب : الصاعقة على ثلاثة أوجه : الموت كقوله : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } والعذاب كقوله : { أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } والنار كقوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } وما ذكره - سبحانه إنما هى أشياء حاصلة من الصاعقة ؛ فإن الصاعقة هى الصوت الشديد فى الجو ، ثم يكون منه نار فقط ، أو عذاب ، أو موت ، وهى فى ذاتها شئ واحد . وهذه الأشياء تأثيرات منها .
ويبدو أن المراد بالصاعقة هنا : ذلك الصوت الشديد المجلجل المزلزل المصحوب بنار هائلة ، والذى كان من آثاره أن صعقوا : أى خروا مغشيا عليهم أو هلكوا ، بسبب ظلمهم وعنادهم وفسوقهم عن أمر الله .
وقوله : { ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } بيان لنوع ثالث من جرائمهم ، ولمظهر من مظاهر رحمة الله بهم .
أى : أن هؤلاء الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، أخذتهم الصاعقة عقوبة لهم على ظلمهم ، لم يرتدعوا ولم ينزجروا ، بل لجوا فى طغيانهم وضلالهم فاتخذوا العجل معبودا لهم من دون الله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } أى من بعد ما جاءتهم الدلائل القاطعة على وحدانية الله وصدق أنبيائه .
وقوله : { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } أى . عفونا من اتخاذهم العجل إلها بعد أن تابوا وأقلعوا عن عبادته ، لأن التوبة تجب ما قبلها .
وقوله . { وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } أى . أعطينا موسى بفضلنا ومنتنا حججا بينات ومعجزات باهرات ، وقوة وقدرة على الانتصال على من خالفه و ( ثم ) فى قوله . { ثُمَّ اتخذوا العجل } للتراخى الرتبى ؛ لأن اتخاذهم العجل إلها أعظم جرما مما حكاه الله عنهم من جرائم قبل ذلك .
وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } بيان لفرط ضلالهم وانطماس بصيرتهم ، لأنهم لم يبعدوا العجل عن جهالة ، وإنما عبدوه من بعد ما وصلت إلى أسماعهم وعقولهم الدلائلة الواضحة وعلى وحدانية الله ، وعلى أن عبادة العجل لا يقدم عليها إنسان فيه شئ من العقل وحسن الإِدراك .
واسم الإِشارة فى قوله { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } يعود إلى اتخاذ العجل معبودا من دون الله .
والجملة الكريمة حض لليهود المعاصرين للعهد النبوى على الدخول فى الإِسلام فإنهم متى فعلوا ذلك غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم كما غفر لآبائهم بعد أن تابوا من عبادة العجل .
هذا ، وما حكته هذه الآية الكريمة من جرائم بنى إسرائيل بصورة مجملة قد جاء مفصلا فى مواطن أخرى ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قال محمد بن كعب القرظي ، والسدي ، وقتادة : سأل اليهود رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء . كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة .
قال ابن جُرَيج : سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان ، بتصديقه فيما جاءهم به . وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد ، كما سأل كفارُ قريش قبلهم نظير ذلك ، كما هو مذكور في سورة " سبحان " : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } [ الإسراء : 90 ، 93 ] الآيات . ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } أي : بطغيانهم وبغيهم ، وعتوهم وعنادهم . وهذا مفسر في سورة " البقرة " حيث يقول تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ . ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 55 ، 56 ] .
وقوله تعالى : { ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي : من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى ، عليه السلام ، في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدو الله فرعون{[8541]} وجميع جنوده في اليمّ ، فما جاوزوه إلا يسيرًا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فقالوا لموسى{[8542]} { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ]{[8543]} } [ الأعراف : 138 ، 139 ] . ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة{[8544]} في سورة " الأعراف " ، وفي سورة " طه " بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله ، عز وجل ، ثم لما رجع وكان ما كان ، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه : أن يقتُلَ من لم يعبد العجل منهم من عبده ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم الله ، عز وجل ، فقال الله عز وجل{[8545]} { فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا }
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء } نزلت في أحبار اليهود قالوا : إن كنت صادقا فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام ، وقيل : كتابا محررا بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة ، أو كتابا نعاينه حين ينزل ، أو كتابا إلينا بأعياننا بأنك رسول الله . { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } جواب شرط مقدر أي : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى عليه السلام أكبر منه ، وهذا السؤال وإن كان من آبائهم أسند إليهم لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم . والمعنى إن عرقهم راسخ في ذلك وأن ما اقترحوه عليك ليس بأول جهالاتهم وخيالاتهم . { فقالوا أرنا الله جهرة عيانا أرناه نره جهرة ، أو مجاهرين معاينين له . { فأخذتهم الصاعقة } نار جاءت من قبل السماء فأهلكتهم . { بظلمهم } بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم ، ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقا . { ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } هذه الجناية الثانية التي اقترفها أيضا أوائلهم ، والبينات ، المعجزات ، ولا يجوز حملها على التوراة إذ لم تأتهم بعد . { فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا } تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم .
واختلف المتأولون في كيفية سؤال أهل الكتاب لمحمد عليه السلام أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، فقال السدي : قالت اليهود : يا محمد إن كنت صادقاً فجيء بكتاب من السماء كما جاء موسى بكتاب ، وقال محمد بن كعب القرظي : قد جاء موسى بألواح فيها التوراة فجيء أنت بألواح فيها كتابك ، وقال قتادة : بل سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود ، يأمرهم فيه بالإيمان بمحمد ، وقال ابن جريج : قالت اليهود : يا محمد لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان وإلى فلان أنك رسول الله .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : فقول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أبي أمية المخزومي القرشي{[4355]} .
ثم قال تعالى { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } على جهة التسلية لمحمد عليه السلام ، وعرض الأسوة ، وفي الكلام متروك يدل عليه المذكور ، تقديره : فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشططهم فإنها عادتهم ، { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } . وقرأ جمهور الناس «أكبر » بالباء المنقوطة بواحدة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أكثر » بالثاء المثلثة ، وجمهور المتأولين على أن { جهرة } معمول ل { أرنا } ، أي : حتى نراه جهاراً أي عياناً رؤية منكشفة بينة ، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى أن { جهرة } معمول ل { قالوا } ، أي قالوا جهرة منهم وتصريحاً { أرنا الله } .
قال القاضي أبو محمد : وأهل السنة معتقدون أن هؤلاء لم يسألوا محالاً عقلاً ، لكنه محال من جهة الشرع ، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا ُيرى في هذه الحياة الدنيا ، والرؤية في الآخرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المتواتر{[4356]} ، وهي جائزة عقلاً دون تحديد ولا تكييف ولا تحيز ، كما هو تعالى معلوم لا كالمعلومات كذاك هو مرئي لا كالمرئيات ، هذه حجة أهل السنة وقولهم ، ولقد حدثني أبي رضي الله عنه عن أبي عبد الله النحوي أنه كان يقول عند تدريس هذه المسألة : مثال العلم بالله حلق لحى المعتزلة في إنكارهم الرؤية{[4357]} ، والجملة التي قالت { أرنا الله جهرة } هي التي مضت مع موسى لحضور المناجاة ، وقد تقدم قصصها في سورة البقرة ، وقرأ جمهور الناس «فأخذتهم الصاعقة » وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي «الصعقة » والمعنى يتقارب ، إذ ذلك كله عبارة عن الوقع الشديد من الصوت يصيب الإنسان بشدته وهو له خمود وركود حواس ، و { ظلمهم } هو تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه .
وقوله تعالى : قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل ، وذلك أن اتخاذ العجل كان عند أمر المضي للمناجاة ، فلم يكن الذين صعقوا ممن اتخذوا العجل ، لكن الذين اتخذوه كانوا قد جاءتهم البينات في أمر إجازة البحر وأمر العصا وغرق فرعون وغير ذلك ، وقوله تعالى : { فعفونا عن ذلك } يعني بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم ، والسلطان : الحجة{[4358]} .