{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ * وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ْ }
يقول تعالى : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ْ } أي : عهدهم الثقيل بالإيمان بالله ، والقيام بواجباته التي تقدم الكلام عليها في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ْ } إلى آخر الآيات . { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ْ } يتوالون عليهم بالدعوة ، ويتعاهدونهم بالإرشاد ، ولكن ذلك لم ينجع فيهم ، ولم يفد { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ ْ } من الحق كذبوه وعاندوه ، وعاملوه أقبح المعاملة { فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ْ }
وبعد أن فتح - سبحانه - باب الإِيمان أمام أهل الكتاب وغيرهم لكي يدخلوه فينالوا رضاه ومثوبته . عقب ذلك باستئناف الحديث من أنواع أخرى من الرذائل التي عرفت عن بني إسرائيل فقال - تعالى - :
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ . . . }
المراد بالميثاق في قوله : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ } : العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم بواسطة أنبيائهم بأن يؤدوا ما كلفهم به من تكاليف وأن يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند ظهوره .
وقد أكد الله هذا الميثاق الذي أخذه عليهم بلام القسم وبقد المفيدة للتحقيق أي : بالله لقد أخذنا الميثاق على بني إسرائيل بأن يعبدوني ولا يشركون بي شيئاً ، وبأن ينفذوا ما كلفتهم به من المأمورات والمنهيات والشرائع والأحكام .
وقوله { وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً } معطوف على { أَخَذْنَا } والتنكير في قوله : { رُسُلاً } للتكثير والتعظيم .
أي : أخذنا العهد المؤكد عليهم بأن يسيروا على الطريق المستقيم ، وأرسلنا إليهم رسلا ذوي عدد كثير ، وألوى شأن خطير ، لكي يتعهدوهم بالتبشير والانذار ، ولكي يرشدوهم إلى ما يأتون وما يذرون من أمور دينهم .
فأنت ترى أن الله - تعالى - مع أخذه الميثاق عليهم لم يتركهم هملا ، بل أرسل إليهم الرسل ليعينوهم على تنفيذ ما جاء به .
ولم يذكر - سبحانه - هنا موضوع هذا الميثاق ، اكتفاء بذكره في مواطن أخرى كثيرة . ومن ذلك قوله - تعالى - قبل ذلك في هذه السورة .
{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } الآية .
وقوله : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } بيان لموقفهم الذميم من الميثاق الذي أخذ عليهم ومن الرسل الكرام الذين أرسلهم الله لهدايتهم وسعادتهم .
أي : أخذنا الميثاق المؤكد عليهم ، وأرسلنا إليهم رسلا كثيرين لهدايتهم ولكنهم نقضوا الميثاق ، وعصوا الرسل ، فكانوا { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } لما لا تشتيه نفوسهم الشقية ، وبما لا تميل إليه قلوبهم الردية ، ناصبوه العداء ؛ فكذبوا بعض الرسل ، ولم يكتفوا مع البعض الآخر بالتكذيب بل أضافوا إليه القتل .
ولقد كذب اليهود جميع الرسل الذين جاءوا لهدايتهم ولم يؤمن بهم إلا قلة منهم . وقتلوا من بين من قتلوا من الرسل بعد أن كذبهم : زكريا ويحيى ، وحاولوا قتل عيسى - عليه السلام - كما حاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن الله - تعالى - نجاهما من مكرهم وكيدهم .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } جملة شرطية وقعت صفة لقوله : { رُسُلاً } والرابط محذوف : أي : رسول منهم { بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ } أي بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم .
فإن قلت : أين جواب الشرط قلت : هو محذوف يدل عليه { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } فكأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه .
والتعبير بقوله : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } يدل على أن حال بني إسرائيل بالنسبة للرسل يدور بين أمرين أما التكذيب لهم ، والاستهانة بتعاليمهم وإما أن يجمعوا مع التكذيب قتلهم وإزهاق أرواحهم الشريفة .
فكأن التكذيب والقتل قد صار سجيتين لهم لا تتخلفان في أي زمان ومع أي رسول ، وذلك لأن لفظ " كل " يدل على العموم . " وما " مصدرية ظرفية دالة على الزمان ، فكأنه - سبحانه - يقولك في كل أوقات مجيء الرسل إليهم كذبوا ويقتلون دون أن يفرقوا بين رسول ورسول أو بين زمان وزمان .
وقال - سبحانه - { بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ } للمبالغة في ذمهم ، إذ هوى النفس ميلها في الغالب إلى الشهوات التي لا تنبغي ، والرسل ما أرسلهم الله - تعالى - إلا الهداية الأنفس ، وكفها عن شهواتها التي يؤدي الوقوع فيها إلى المفاسد .
وبنو إسرائيل لا يكذبون الرسل ، ويقتلونهم إلا لأنهم جاءهم بما يخالف هواهم ، ويتعارض مع أنانيتهم وشرهم ومطامعهم الباطلة .
وهكذا الأمم عندما تفسد عقولها ؛ وتسيطر عليها الأطماع والشهوات ، ترى الحسن قبيحا ، وتحارب من يهيدها إلى الرشاد حتى لكأنه عدو لها .
وقدم - سبحانه - المفعول به في قوله { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } للاهتمام بتفصيل أحوال بني إسرائيل السيئة ، وبيان ما لقيه الرسل الكرام منهم .
وعبر عن التكذيب بالفعل الماضي فقال : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } وعن القتل بالفعل المضارع فقال : { وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } لحكاية الحال الماضية التي صدرت من أسلافهم بتصوير ما حصل في الماضي كأنه حاصل وقت التكلم ، ولاستحضار جريمتهم البشعة في النفوس حتى لكأنها واقعة في الحال ، وفي ذلك ما فيه من النعي عليهم . والتوبيخ لهم والتعجيب من أحوالهم التي بلغت نهاية الشناعة والقبح
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل ، على السمع والطاعة لله ولرسوله ، فنقضوا تلك العهود والمواثيق ، واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع ، فما وافقهم منها قبلوه ، وما خالفهم ردوه ؛ ولهذا قال : { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} في التوراة على أن يعملوا بما فيها، {وأرسلنا إليهم رسلا}: وأرسل الله تعالى إليهم رسلا، {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم}، يعني اليهود، {فريقا كذبوا}، يعني اليهود، فريقا كذبوا عيسى صلى الله عليه وسلم ومحمدا صلى الله عليه وسلم، {وفريقا يقتلون}، يعني اليهود، كذبوا بطائفة من الرسل، وقتلوا طائفة من الرسل، يعني زكريا، ويحيى في بني إسرائيل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أقسم لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على الإخلاص وتوحيدنا، والعمل بما أمرناهم به، والانتهاء عما نهيناهم عنه، وأرسلنا إليهم بذلك رسلاً، ووعدناهم على ألسن رسلنا إليهم على العمل بطاعتنا الجزيل من الثواب، وأوعدناهم على العمل بمعصيتنا الشديد من العقاب، كلما جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبتهم، كذبوا منهم فريقا ويقتلون منهم فريقا، نقضا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم، وجراءة علينا وعلى خلاف أمرنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَقَدْ أَخَذْنَا} ميثاقهم بالتوحيد {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ} جملة شرطية وقعت صفة لرسلاً، والراجع محذوف أي رسول منهم {بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع.
فإن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت: جيء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله عز وجل: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} الآية، استئناف خبر بفعل أوائلهم وما نقضوا من العهود واجترحوا من الجرائم، أي «إن العصا من العصية»، وهؤلاء يا محمد من أولئك فليس قبيح فعلهم ببدع، و {كلما} ظرف والعامل فيه [كذبوا] و [يقتلون].. وقوله تعالى: {بما لا تهوى أنفسهم} يقتضي أن هواهم كان غير الحق... {فريقاً كذبوا} معناه كذبوه فقط، يريد الفريق من الرسل ولم يقتلوه، وفريقاً من الرسل كذبوه وقتلوه، فاكتفى بذكر القتل إذ هو يستغرق التكذيب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت هذه البشارة -الصادقة من العزيز العليم الذي أهل الكتاب أعرف الناس به لمن آمن كائناً من كان- موجبة للدخول في الإيمان والتعجب ممن لم يسارع إليه، وكان أكثر أهل الكتاب إنما يسارعون في الكفر، كان الحال مقتضياً لتذكر ما مضى من قوله تعالى {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} [المائدة: 12] وزيادة العجب منهم مع ذلك، فأعاد سبحانه الإخبار به مؤكداً له تحقيقاً لأمره وتفخيماً لشأنه، وساقه على وجه يرد دعوى البنوة والمحبة، ملتفتاً مع التذكير بأول قصصهم في هذه السورة إلى أول السورة
{أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] وعبر في موضع الجلالة بنون العظمة، وجعل بدل النقباء الرسل فقال مستأنفاً: {لقد أخذنا} أي على ما لنا من العظمة {ميثاق بني إسرائيل} أي على الإيمان بالله ثم بمن يأتي بالمعجز مصدقاً لما عنده بحيث يقوم الدليل على أنه من رسل الله الذين تقدم أخذ العهد عليهم بالإيمان بهم، ودل على عظمة الرسل بقوله في مظهر العظمة: {وأرسلنا إليهم رسلاً} أي لم نكتف بهذا العهد، بل لم نخلهم من بعد موسى من الرسل الذين يرونهم الآيات ويجددون لهم أوامر الرب إلى زمن عيسى عليه السلام، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه -البخاري في بني إسرائيل ومسلم في المغازي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" انتهى. ومع ذلك فلم يخل لهم زمان طويل من الكفر لا في زمن موسى ولا في زمن من بعده من الأنبياء عليهم السلام، حتى قتلوا كثيراً من الرسل وهو معنى قوله -جواباً لمن كأنه قال: ما فعلوا بالرسل: {كلما جاءهم رسول} أي من أولئك الرسل أي رسول كان {بما لا تهوى أنفسهم} أي بشيء لا تحبه نفوسهم محبة تتساقط بها إليه، خالفوه، فكأنه قيل: أي مخالفة؟ فقيل: {فريقاً} أي من الرسل {كذبوا} أي كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل، ودل على شدة بشاعة القتل وعظيم شناعته بالتعبير بالمضارع تصويراً للحال الماضية وتنبيهاً على أن هذا ديدنهم وهو أشد من التكذيب فقال: {وفريقاً يقتلون} أي مع التكذيب وليدل على ما وقع منهم في سم النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المفعول للدلالة على انحصار أمرهم في حال التكذيب والقتل، فلا حظ لهم في تصديق مخالف لأهويتهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بدأ الله تعالى السياق الطويل في أهل الكتاب بأخذ الميثاق على بني إسرائيل وبعث النقباء فيهم، ثم أعاد التذكير به في أواخره هنا، فذكر وذكر معه إرسال الرسل إليهم ما كان من معاملتهم لهم فقال: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} تقدم أن الميثاق هو العهد الموثق المؤكد وأن الله أخذه عليهم في التوراة فراجع الآية ال 13 (ج تفسير).
وقد نقضوا الميثاق كما تبين في أوائل هذه السورة وأواخر ما قبلها. وأما معاملتهم للرسل فقد بين الله تعالى إجماله بهذه القاعدة الكلية، وهي أنهم كانوا كلما جاءهم رسول بشيء لا تهواه أنفسهم – وإن كان مقترنا بأشياء يوافق فيها الحق أهوائهم – عاملوه بأحد أمرين: التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان، أو القتل وسفك الدم. والظاهر أن جملة (كلما جاءهم رسول) استئناف بياني لا صفة لرسل كما قال الجمهور. وجعل الرسل فريقين في معاملة بعد ذكر لفظ الرسول مفردا في اللفظ جائز، لأن وقوعه مفردا إنما هو بعد (كلما) المفيد للتكرار والتعدد، واستحسن بعضهم أن يكون جواب (كلما) محذوفا تقديره: استكبروا وأعرضوا، وجعل التفصيل بعد ذلك استئنافا بيانيا مفصلا لما ترتب على الاستكبار وعدم قبول هداية الرسل. وهو حسن لموافقته لقوله تعالى في آية أخرى {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] وتقدم تفسيرها.
والتعبير عن القتل بالمضارع مع كونه كالتكذيب وقع في الماضي نكتته تصوير جرم القتل الشنيع واستحضار هيئته المنكرة كأنه واقع في الحال، للمبالغة في النعي عليهم والتوبيخ لهم، فقد أفادت الآية أنهم بلغوا من الفساد واتباع أهوائهم أخشن مركب وأشده تقحما بهم في الضلال، حتى لم يعد يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل وهديهم، بل صار يغريهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة الأخيار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يأخذ السياق في عرض طرف من تاريخ بني إسرائيل -اليهود- يتجلى فيه كيف أنهم ليسوا على شيء؛ ويتبين معه ضرورة تبليغهم الدعوة، ومخاطبتهم بالإسلام، ليأووا منه إلى دين الله. ثم لتتبين حقيقتهم التي لم تتغير؛ وتنكشف للمسلمين هذه الحقيقة، فتسقط في أعينهم قيمة يهود، وتنفر قلوبهم من الولاء لهم والتناصر معهم، وهم على مثل هذه الحال في أمر الحق والدين:
(لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل، وأرسلنا إليهم رسلا. كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون. وحسبوا ألا تكون فتنة. فعموا وصموا، ثم تاب الله عليهم، ثم عموا وصموا -كثير منهم- والله بصير بما يعملون)..
إنه تاريخ قديم! فليس موقفهم من رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بالأول ولا بالأخير! إنهم مردوا على العصيان والإعراض؛ ومردوا على النكول عن ميثاق الله؛ ومردوا على اتخاذ هواهم إلههم لا
دين الله، ولا هدى الرسل؛ ومردوا على الإثم والعدوان على دعاة الحق وحملة دعوة الله:
(لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا. كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون)..
وسجل بني إسرائيل مع أنبيائهم حافل بالتكذيب والإعراض؛ حافل بالقتل والاعتداء! حافل بتحكيم الشهوات والأهواء.
ولعله من أجل ذلك قص الله تاريخ بني إسرائيل على الأمة المسلمة في تفصيل وتطويل.. لعلها تتقي أن تكون كبني إسرائيل؛ ولعلها تحذر مزالق الطريق، أو لعل الواعين منه الموصولين بالله يدركون هذه المزالق؛ أو يتأسون بأنبياء بني إسرائيل حين يصادفون ما صادفوا وأجيال من ذراري المسلمين تنتهي إلى ما انتهى إليه بنو إسرائيل، حين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم؛ فتحكم الهوى؛ وترفض الهدى، وتكذب فريقا من الدعاة إلى الحق، وتقتل فريقا؛ كما صنع بغاة بني إسرائيل، في تاريخهم الطويل!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والرسل الّذين أرسلوا إليهم هم موسى وهارون ومن جاء بعدهما مثل يوشع بن نون وأشعيا وأرْميا وحزقيال وداوود وعيسى. فالمراد بالرّسل هنا الأنبياء: من جاء منهم بشرع وكتاب، مثل موسى وداوود وعيسى، ومن جاء معزّزاً للشّرع مبيّنا له، مثل يوشع وأشعيا وأرميا. وإطلاق الرّسول على النّبيء الّذي لم يجئ بشريعة إطلاق شائع في القرآن كما تقدّم، لأنّه لمَّا ذكر أنّهم قَتَلوا فريقاً من الرسل تعيَّن تأويل الرسل بالأنبياء فإنّهم ما قتلوا إلاّ أنبياء لا رسلاً.
وقوله: {كلّما جاءهم رسول بما لا تهوَى أنفسهم فريقاً كذّبوا} إلخ انتصب {كلّما} على الظرفيّة، لأنّه دالّ على استغراق أزمنة مَجيء الرسل إليهم فيدلّ على استغراق الرسل تبعاً لاستغراق أزمنة مجيئهم، إذْ استغراق أزمنة وجود شَيْء يستلزم استغراق أفراد ذلك الشيء، فما ظرفية مصدريّة دالّة على الزّمان.
... فالأحسن أن تكون جملة {فريقاً كذّبوا} حالاً من ضمير {إليهم} لاقترانها بضمير موافِق لصاحب الحال، ولأنّ المقصود من الخبر تفظيع حال بني إسرائيل في سوء معاملتهم لهداتهم، وذلك لا يحصل إلاّ باعتبار كون المرسَل إليهم هذه حالهم مع رسلهم. وليست جملة {فريقاً كذبوا} وما تقدّمها من متعلّقها استئنافاً، إذ ليس المقصود الإخبار بأنّ الله أرسل إليهم رسلاً بل بمدلول هذا الحال.
وبهذا يظهر لك أنّ التّقسيم في قوله: {فريقاً كذّبوا وفريقاً يقتلون} ليس لرسول من قوله: {كلّما جاءهم رسول} بل {رُسلاً}، لأنَّنا اعتبرنا قوله: {كلّما جاءهم رسول} مقدّماً من تأخير. والتقدير: وأرسلنا إليهم رسلاً كذّبوا منهم فريقاً وقتلوا فريقاً كُلّما جاءهم رسول من الرسل. وبهذا نستغني عن تكلّفات وتقدير في نظم الآية الآتي على أبرع وجوه الإيجاز وأوضح المعاني.
وقوله: {بما لا تهوى أنفسهم} أي بما لا تحبّه. يقال: هَوِي يهوَى بمعنى أحبّ ومَالت نفسه إلى ملابسة شيء. إنّ بعثة الرسل القصد منها كبح الأنفس عن كثير من هواها الموقع لها في الفساد عاجلاً والخسران آجلاً، ولولا ذلك لتُرك النّاس وما يهوَوْن، فالشرائع مشتملة لا محالة على كثير من منع النّفوس من هواها. ولمّا وصفت بنو إسرائيل بأنّهم يكذّبون الرسل ويقتلونهم إذا جاؤوهم بما يخالف هواهم علمنا أنّه لم يَخْلُ رسول جاءهم من أحد الأمرين أو كليهما: وهما التّكذيب والقتل. وذلك مستفاد من {كلّما جاءهم رسول}، فلم يبق لقوله: {بما لا تهوى أنفسهم} فائدة إلاّ الإشارة إلى زيادة تفظيع حالهم من أنّهم يكذّبون الرسل أو يقتلونهم في غير حالة يلتمسون لأنفسهم فيها عُذراً من تكليفٍ بمشقّة فادحة، أو من حدوث حادثِ ثائرة، أو من أجل التّمسّك بدين يأبون مفارقته، كما فعل المشركون من العرب في مجيء الإسلام، بل لمجرّد مخالفة هوى أنفسهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق فقبلوه فتتعطّل بتمرّدهم فائدة التّشريع وفائدة طاعة الأمّة لهُداتها.
وهذا تعليم عظيم من القرآن بأنّ من حقّ الأمم أن تكون سائرة في طريق إرشاد علمائها وهداتها، وأنّها إذا رامت حمل علمائها وهدَاتها على مسايرة أهوائها، بحيث يُعْصَوْن إذا دَعوا إلى ما يخالف هوى الأقوام فقد حقّ عليهم الخسران كما حقّ على بني إسرائيل، لأنّ في ذلك قلباً للحقائق ومحاولة انقلاب التّابع متبوعاً والقائد مقوداً، وأنّ قادة الأمم وعلماءها ونصحاءها إذا سايروا الأمم على هذا الخُلق كانوا غاشِّين لهم، وزالت فائدة علمهم وحكمتهم واختلط المَرْعِيّ بالهَمَل والحَابِلُ بالنابل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من استرعاه الله رعيّة فغشّها لم يَشُمّ رائحةَ الجنّة» فالمشركون من العرب أقرب إلى المعذرة لأنّهم قابلوا الرسول من أوّل وهلة بقولهم: {إنّا وجدنا آباءَنَا على أمّة وإنَّا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]، وقال قوم شعيب {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} [هود: 87]، بخلاف اليهود آمنوا برسلهم ابتداء ثُمّ انتقضوا عليهم بالتّكذيب والتّقتيل إذا حملوهم على ما فيه خيرهم ممّا لا يهُوونه.