البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمۡ رُسُلٗاۖ كُلَّمَا جَآءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُهُمۡ فَرِيقٗا كَذَّبُواْ وَفَرِيقٗا يَقۡتُلُونَ} (70)

{ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً } هذا إخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم ، وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم ، والذين هم بحضرة الرسول هم أخلاف أولئك ، فغير بدع ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان ، إذ ذاك شنشنة من أسلافهم .

{ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون } تقدم تفسير مثل هذا في البقرة .

وقال الزمخشري هنا : ( فإن قلت ) : أين جواب الشرط ؟ فإن قوله فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ناب عن الجواب ، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ، ولأنه لا يحسن أن تقول : إن أكرمت أخي أخاك أكرمت .

( قلت ) : هو محذوف يدل عليه قوله : فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه .

وقوله : فريقاً كذبوا ، جواب مستأنف لسؤال قاتل : كيف فعلوا برسلهم ؟ انتهى قوله : فإن قلت : أين جواب الشرط ؟ سمي قوله كلما جاءهم رسول شرطاً وليس بشرط ، بل كل منصوب على الظرف لإضافتها إلى المصدر المنسبك من ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيها هو ما يأتي بعدما المذكورة ، وصلتها من الفعل كقوله : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم } كلما { ألقوا فيها } وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما ، وعلى تسليم تسميته شرطاً فذكر أن قوله : فريقاً كذبوا ينبو عن الجواب لوجهين : أحدهما : قوله : لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ، وليس كما ذكر ، لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد ، بل المراد به الجنس .

وأي نجم طلع ، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين : فريق كذب ، وفريق قتل .

والوجه الثاني قوله : ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت ، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل للجواب عليه .

وليس كما ذكر ، بل مذهب البصريين والكسائي إن ذاك جائز حسن ، ولم يمنعه إلا الفراء وحده ، وهذا كله على تقدير تسليم إن كلما شرط ، وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا ، بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه .

فتقول في كلما جئتني أخاك أكرمت ، وعموم نصوص النحويين على ذلك ، لأنهم حين حصر ، وأما يجب تقديم المفعول به على العامل وما يجب تأخيره عنه قالوا : وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه ، ولم يستثنوا هذه الصورة ، ولا ذكروا فيها خلافاً .

فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله : كذبوا ، وما عطف عليه ولا يكون محذوفاً .

وقال الحوفي وابن عطية : كلما ظرف ، والعامل فيه كذبوا .

وقال أبو البقاء : كذبوا جواب كلما انتهى .

وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل ، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها قاله الزمخشري .

ويحسن مجيئه أيضاً كونه رأس آية ، والمعنى : أنهم يكذبون فريقاً فقط ، وقتلوا فريقاً ولا يقتلونه إلا مع التكذيب ، فاكتفى بذكر القتل عن ذكر التكذيب أي : اقتصر ناس على كذيب فريق ، وزاد ناس على التكذيب القتل .