اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمۡ رُسُلٗاۖ كُلَّمَا جَآءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُهُمۡ فَرِيقٗا كَذَّبُواْ وَفَرِيقٗا يَقۡتُلُونَ} (70)

والمقصودُ : بيان عُيُوب بني إسرائيل ، وشدَّة تَمَرُّدهم عن الوفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ ، وهذا مُتعلِّقٌ بأوَّلِ السُّورة ، وهو قولُه تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] .

قوله تعالى : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } : قد تقدَّم الكلامُ [ الآية 20 من البقرة ] على " كُلَّمَا " مشبَعاً ، فأغْنَى عن إعادته ، وقال الزمخشريُّ : " كُلَّمَا جاءَهُمْ رسولٌ " جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةٌ ل " رُسُلاً " ، والراجعٌ محذوفٌ ، أي : " رسولٌ منهُمْ " ، ثم قال : " فإنْ قلتَ : أينَ جوابُ الشرط ، فإنَّ قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وفرِيقاً يقتُلُونَ } ناب عن الجواب ؛ لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقَيْن ؛ ولأنه لا يحسُن أن تقول : " إنْ أكْرَمْتَ أخِي ، أخَاك أكْرَمْتُ " ؟ قلتُ : هو محذوفٌ ؛ يَدُلُّ عليه قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسولٌ ، ناصَبُوه ، وقوله : " فَرِيقاً كَذَّبُوا " جوابٌ مستأنفٌ لقائلٍ يقول : كيف فعلُوا برسُلِهِمْ ؟ " قال أبو حيان{[12337]} : " وليس " كُلَّمَا " شرطاً ، بل " كُلَّ " منصوبٌ على الظرف و " مَا " مصدريةٌ ظرفيةٌ ، ولم يجزم العربُ ب " كُلَّمَا " أصلاً ، ومع تسليم أن " كُلَّمَا " شرط ؛ فلا يمتنع ؛ لما ذكر ، أمّا الأول ؛ فلأنَّ المرادَ ب " رَسُول " الجنسُ لا واحدٌ بعينه ، فيصحُّ انقسامُه إلى فريقَيْن ؛ نحو : " لا أصْحَبُكَ ما طَلَع نَجْمٌ " أي : جنس النجوم ، وأما الثاني ؛ فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه " . وهذا الذي منعه إنما منعه الفرَّاءُ وحدَه ، وأما غيرُه ، فأجاز ذلك ، وهذا مع تسليم أنَّ " كُلَّمَا " شرط ، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ ، فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك ، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في " كُلَّمَا " تقول : " كُلَّمَا جِئْتَنِي أخَاكَ أكْرَمْتُ " ، قال شهاب الدين : هذا واضحٌ من أنها ليستْ شرطاً ، وهذه العبارةُ تكثُرُ في عبارة الفقهاءِ دُونَ النُّحَاةِ ، وفي عبارة أبي البقاء{[12338]} ما يُشْعر بما قاله الزمخشريُّ ، فإنه قال : " وَكَذَّبُوا " جواب " كُلَّمَا " و " فَرِيقاً " مفعول ب " كَذَّبُوا " ، و " فَرِيقاً " منصوب ب " يَقْتُلُونَ " ، وإنما قدَّمَ مفعول " يَقْتُلُونَ " لتواخي رؤوس الآي ، وقدَّم مفعولَ " كَذَّبُوا " مناسبةً لما بعده .

قال الزمخشريُّ{[12339]} : " فإنْ قلت : لِمَ جِيءَ بأحد الفعلَيْن ماضياً ، وبالآخر مضارعاً ؟ قلتُ : جِيء ب " يَقْتُلُونَ " على حكايةِ الحالِ الماضية ؛ استفظاعاً للقتلِ ، واستحضاراً لتلْكَ الحالِ الشنيعةِ ؛ للتعجُّبِ منها " . انتهى ، وقد يقال : فلِمَ لا حُكِيَتْ حالُ التكْذيبِ أيضاً ، فيُجَاءُ بالفعْلِ مضارعاً لذلك ؟ ويجَابُ بأنَّ الاستفظاع في القتلِ وشناعَتِهِ أكثرُ من فظاعةِ التكذيبِ ، وأيضاً ؛ فإنه لمَّا جيء به مضارعاً ناسب رؤوس الآي .


[12337]:ينظر: البحر المحط 3/541.
[12338]:ينظر: الإملاء 1/222.
[12339]:ينظر: الكشاف 1/662.