الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمۡ رُسُلٗاۖ كُلَّمَا جَآءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُهُمۡ فَرِيقٗا كَذَّبُواْ وَفَرِيقٗا يَقۡتُلُونَ} (70)

قوله تعالى : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } : قد تقدَّم الكلام على " كلما " مشبعاً فَأَغْنى عن إعادتِه . وقال الزمخشري : " كلما جاءهم رسول " جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةً ل " رسلاً " والراجعُ محذوفٌ أي : رسول منهم " ، ثم قال : " فإنْ قلت : أين جوابُ الشرط ، فإنَّ قولَه : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ناب عن الجواب ، لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقين ، ولأنه لا يحسُن أن تقولَ : " إن أكرمت أخي أخاك أكرمت " ؟ قلت : هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } كأنه قيل : كلما جاءَهم رسولٌ ناصَبُوه ، وقوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } جواب مستأنف لقائلٍ يقول : كيف فَعَلُوا برسلهم ؟ " قال الشيخ : " وليس " كلما " شرطاً ، بل " كلَّ " منصوبٌ على الظرف و " ما " مصدرية ظرفية ، ولم يجزم العرب ب " كلما " أصلاً ، ومع تسليم أن " كلما " شرط فلا يمتنع لِما ذكر ، أما الأول فلأنَّ المرادَ ب " رسول " الجنسُ لا واحدٌ بعينه ، فيصح انقسامُه إلى فريقين نحو : " لا أصحبك ما طَلَعَ نجمٌ " أي : جنس النجوم ، وأما الثاني فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه ، وهذا الذي منعه إنما منعه الفراءُ وحدَه ، وأما غيرُه فأجاز ذلك ، وهذا مع تسليم أنَّ " كلما " شرط ، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك ، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في " كلما " تقول : " كلما جئتني أخاك أكرمتُ " قلت : هذا واضحٌ من أنها ليست شرطاً ، وهذه العبارةُ تكثُر في عبارة الفقهاء دونَ النحاة . وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشري فإنه قال : " وكَذَّبوا " جواب " كلما " " وفريقاً " مفعول ب " كَذَّبوا " و " فريقاً " منصوب ب " يقتلون " وإنما قدَّمَ مفعولَ " يقتلون " لتواخي رؤوسِ الآي ، وقَدَّم مفعولَ " كَذَّبوا " مناسبة لما بعده .

قال الزمخشري : " فإنْ قلت : لِمَ جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً ؟ قلت : جِيء ب " يقتلون " على حكايةِ الحالِ الماضية استفظاعاً للقتلِ ، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للعجبِ منها " انتهى . وقد يقال : فلِمَ لا حُكِيت حالُ التكذيب أيضاً فيُجاء بالفعل مضارعاً لذلك ؟ ويُجاب بأنَّ الاستفظاعَ في القتلِ وشناعتِه أكثرُ ن فظاعةِ التكذيب ، وأيضاً فإنه لمَّا جِيء به مضارعاً ناسَبَ رؤوس الآي .