قوله تعالى : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } أي : عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهم بنو قريظة ، { من صياصيهم } حصونهم ومعاقلهم ، واحدها صيصية ، ومنه قيل للقرن ولشوكة الديك والحاكة صيصية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ، ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجراً بعمامة من استبرق على بلغة عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه ، فقال : قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فقال جبريل : عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم . وروي أنه كان الغبار على وجه جبريل عليه السلام وفرسه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهه وعن وجه فرسه ، فقال : إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إلى بني قريظة ، فانهزم إليهم ، فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم ، وتركتهم في زلزال وبلبال ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً فأذن : أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إليهم ، وابتدرها الناس فصار علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال : لم ، أظنك سمعت لي منهم أذىً ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال : يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ . قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولاً . ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصور من قبل أن يصل إلى بني قريظة ، فقال هل مر بكم أحد ؟ فقالوا : نعم يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال عليه السلام : ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم . فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم ، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب . وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده . فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم ، قالوا : وما هن ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره ، قال : فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء ، فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم ؟ قال : فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة . قالوا : أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ؟ أما من قد عملت فصأبهم من المسخ ما لم يخف عليك ؟ فقال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة في الدهر حازماً ؟ قال : ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم ، فقالوا : يا أبا لبابة أترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، قالوا : ماذا يفعل بنا إذا نزلنا ؟ فأشار بيده إلى حلقة أنه الذبح ، قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت ، وعاهد الله أن لا يطأ أرض بني قريظة أبداً ، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه ، قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ، ثم إن الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة ، قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك قلت مما تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك ؟ قال : تيب على أبي لبابة ، فقلت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله ؟ فقال : بلى إن شئت ، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب ، فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك ، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده ، فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى الصبح أطلقه ، ثم قال : إن ثعلبة بن سعيد وأسيد بن شعبة ، وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة ، فلما رآه قال : من هذا ؟ قال : عمرو بن سعدي ، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا أغدر بمحمد أبداً ، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمني عثرات الكرام ثم خلى سبيله ، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين يذهب من أرض الله ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه ، فقال : ذاك رجل قد نجاه الله بوفائه . وبعض الناس يزعم أنه كان قد أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحت رمته ملقاة لا يدري أين يذهب ، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة ، والله أعلم . فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد الله بن أبي بن سلول ، فوهبهم له فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فذاك إلى سعد بن معاذ ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده ، وكانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب ، فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلاً جسيماً ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه ، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى من ها هنا من الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ، ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خندقاً ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالاً أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رئيسا القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثر لهم يقول كانوا بين ثمانمائة إلى تسعمائة ، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً : يا كعب ما ترى ما يصنع بنا فقال كعب : أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وأن من يذهب به منكم لا يرجع ، هو والله القتل ، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بحيي بن أخطب عدو الله عليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضرب عنقه . وروى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهراً وبطناً ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة ؟ قالت : أنا والله هي قالت قلت : ويلك مالك ؟ قالت : أقتل ، قلت : ولم ؟ قالت : حدث أحدثته ، قالت : فانطلق بها فضربت عنقها ، وكانت عائشة تقول : ما أنسى عجباً منها طيب نفس وكثرة ضحك ، وقد عرفت أنها تقتل . قال الواقدي : وكان اسم تلك المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي كانت قتلت خلاد بن سويد ، رمت عليه رحى فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فضربت عنقها بخلاد بن سويد ، قال : وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هنالك . وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطل القرظي ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن ، كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث ، أخذه فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله ، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال : يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني ؟ قال : وهل يجهل مثلي مثلك ؟ قال : إني أردت أن أجزيك بيدك عندي ، قال : إن الكريم يجزي الكريم ، قال : ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قد كانت للزبير عندي يد وله علي منة ، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو لك فأتاه فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك ، قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة ، فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أهله وماله ؟ قال : هم لك فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك قال : أهل بيت الحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك ، فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماله يا رسول الله ؟ قال : هو لك ، قال : فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك ، فقال : أي ثابت ما فعل الله بمن كان وجهه مرآة مضيئة تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد ، قال : قتل ، قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا عزال بن شموال ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل المجلسان يعني بني كعب ابن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؟ قال : ذهبوا قتلوا ، قال : فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم ، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء خير ، فما أنا بصابر حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه ، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ألقى الأحبة ، قال : يلقاهم والله في نار جهنم خالداً فيها مخلداً أبداً . قالوا : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم ، ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأموالهم على المسلمين ، وأعزل في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس ، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان وللفارس سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم ، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً وكان أول فيء وقع فيه السهمان ، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلاً وسلاحاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك . فتركها وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه بذلك من أمرها ، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة ، فجاءه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة ، فبشره بذلك . فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال : اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئاً فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك ، فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد ، قالت عائشة : فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى : { رحماء بينهم } وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا يحيى بن آدم ، أنبأنا إسرائيل ، سمعت أبا إسحاق يقول ، سمعت سليمان بن صرد يقول ، " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه : الآن نغزوهم ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا قتيبة ، أنبأنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده " . قال الله تعالى في قصة قريظة : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } { وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون } وهم الرجال ، يقال : كانوا ستمائة ، { وتأسرون فريقاً } وهم النساء والذراري ، يقال : كانوا سبعمائة وخمسين ، ويقال : تسعمائة .
{ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ } أي عاونوهم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : اليهود { مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي : أنزلهم من حصونهم ، نزولاً مظفورًا بهم ، مجعولين تحت حكم الإسلام .
{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال ، بل استسلموا وخضعوا وذلوا . { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } مَنْ عداهم من النساء والصبيان .
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن غزوة الأحزاب ، ببيان ما حل ببنى قريظة من عذاب مهين ، بسبب نقضهم لعهودهم فقال : { وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ } .
والصياصى : جمع صيصحة وهى كل ما يتحصن به من الحصون وغيرها . ومنه قيل لقرن الثور صيصة لأنه يدفع به عن نفسه .
أى : وبعد أن رحلت جيوش الأحزاب عنكم أيها المؤمنون - أنزل الله - تعالى - بقدرته الذين ظاهروهم وناصروهم عليكم ، وهم يهود بنى قريظة ، أنزلهم من حصونهم ، ومكنكم من رقابهم .
{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } الشديد منكم ، بحيث صاروا مستسلمين لكم ، ونازلين على حكمكم .
{ فَرِيقاً } منهم { تَقْتُلُونَ } وهم الرجال . وتأسرون فريقا آخروهم الذرية والنساء .
{ وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ }أي : عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني : بني قريظة من اليهود ، من بعض أسباط بني إسرائيل ، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديما ، طَمَعًا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه } [ البقرة : 89 ] ، فعليهم لعنة الله .
وقوله : { مِنْ صَيَاصِيهِم } يعني : حصونهم . كذا قال مجاهد ، وعِكْرِمة ، وعطاء ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وغيرهم{[23321]} ومنه سميت صياصي البقر ، وهي قرونها ؛ لأنها أعلى شيء فيها .
{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } : وهو الخوف ؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله{[23322]} صلى الله عليه وسلم ، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم ، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا{[23323]} في الدنيا ، فانعكس عليهم الحال ، وانقلب الفال{[23324]} ، انشمر{[23325]} المشركون ففازوا بصفقة المغبون ، فكما راموا العز ذلوا{[23326]} ، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا ، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة ، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة ؛ ولهذا قال تعالى : { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا }{[23327]} ، فالذين قتلوا هم المقاتلة ، والأسراء هم الأصاغر والنساء .
قال{[23328]} الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم بن بشير ، أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن عطية القرظي قال : عُرضتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيَّ ، فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا : هل أنبت بعد ؟ فنظروا فلم يجدوني أنبت ، فخلى عني وألحقني بالسبي .
وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق ، عن عبد الملك بن عمير ، به{[23329]} . وقال الترمذي : " حسن صحيح " . ورواه النسائي أيضا ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن عطية ، بنحوه{[23330]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وذلك هو مظاهرتهم إياه ، وعنى بذلك بني قريظة ، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله مِنْ أهْلِ الكِتابِ يعني : من أهل التوراة ، وكانوا يهود : وقوله : منْ صَياصِيهمْ يعني : من حصونهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ قال قريظة ، يقول : أنزلهم من صياصيهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وأنْزَلَ الّذينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ وهم بنو قُرَيظة ، ظاهروا أبا سفيان وراسلوه ، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبيّ الله . قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه ، وقد غسلت شقه ، إذ أتاه جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فقال : عفا الله عنك ، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة ، فانهض إلى بني قريظة ، فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم ، وتركتهم في زلزال وبلبال قال : فاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سلك سكة بني غنم ، فاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بالتراب قال : فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناداهم : يا إخوان القردة ، فقالوا : يا أبا القاسم ما كنت فحاشا ، فنزلوا على حكم ابن معاذ ، وكان بينهم وبين قومه حلف ، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة ، وأومأ إليهم أبو لبابة أنه الذبح ، فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتكمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم ، وأن تسبى ذراريهم ، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فقال قومه وعشيرته : آثرت المهاجرين بالعقار علينا قال : فإنكم كنتم ذوي عقار ، وإن المهاجرين كانوا لا عقار لهم . وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال : «قَضَى فِيكُمْ بِحُكْمِ اللّهِ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون ، ووضعوا السلاح ، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن ابن شهاب الزهري معتجرا بعمامة من استبرق ، على بغلة عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج فقال : أقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : «نعم » ، قال جبريل : ما وضعت الملائكة السلاح بعد ، ما رجعت الاَن إلاّ من طلب القوم ، إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة ، وأنا عامد إلى بني قريظة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ، فأذّن في الناس : إن من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلاّ في بني قريظة . وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس ، فسار عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون ، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول الله لا عليك ألاّ تدنو من هؤلاء الأخباث ، قال : «لِمَ ؟ أظُنّك سَمِعْتَ لي مِنْهُمْ أذًى » ، قال : نعم يا رسول الله . قال : «لَوْ قَدْ رأَونِي لَمْ يقُولُوا مِنْ ذلكَ شَيْئا » . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال : «يا إخْوَانَ القِرَدَة هَلْ أخْزَاكُمُ اللّهُ وأنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ ؟ » قالُوا : يا أبا القاسم ، ما كنت جهولاً ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة ، فقال : «هل مَرّ بِكُمْ أحَدٌ ؟ » فقالوا : يا رسول الله ، قد مرّ بنا دِحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذَاكَ جَبْرَائِيلُ بعِثَ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ ، وَيَقْذفُ الرّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ » فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها : بئر أنا ، فتلاحق به الناس ، فأتاه رجال من بعد العشاء الاَخرة ، ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يُصَلّيَنّ أحَدٌ العَصْرَ إلاّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ » ، فصلوا العصر فما عابهم الله بذلك في كتابه ولا عنفهم به رسوله .
والحديث عن محمد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري ، قال : وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب . وقد كان حُيَيّ بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود ، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثا ، فخذوا أيها قالوا : وما هنّ ؟ قال : نبايع هذا الرجل ونصدّقه ، فوالله لقد تبين لكم إنه لنبيّ مرسل ، وإنه الذي كنتم تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره قال : فإذا أبيتم هذه عليّ ، فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ، ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتخذنّ النساء والأبناء ، قالوا : نقتل هؤلاء المساكين ، فما خير العيش بعدهم قال : فإذا أبيتم هذه عليّ ، فإن الليلة ليلة السبت ، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا ، فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرّة . قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ؟ أما من قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك ؟ قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ، قال : ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا من حلفاء الأوس ، نستشيره في أمرنا فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرقّ لهم وقالوا له : يا أبا لبابة ، أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، إنه الذبح قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خُنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عُمده وقال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله عليّ مما صنعت وعاهد الله لا يطأ بني قريظة أبدا ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ، وكان قد استبطأه ، قال : «أما إنّهُ لَوْ كانَ جاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ . أمّا إذْ فَعَلَ ما فَعَلَ ، فَمَا أنا بالّذي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكانِه حتى يَتُوبَ اللّهُ عَلَيْهِ » ثم إن ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، وهم نفر من بني هذيل ليسوا من بني قريظة ، ولا النضير ، نسبهم فوق ذلك ، هم بنو عمّ القوم ، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي ، فمرّ بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة فلما رآه قال : مَنْ هَذَا ؟ قال : عمرو بن سعدى وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لا أغدر بمحمد أبدا ، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهمّ لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ، ثم ذهب ، فلا يُدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه ، فقال : «ذَاكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللّهُ بِوَفائهِ » . قال : وبعض الناس كان يزعم أنه كان أُوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحت رمته مُلقاة ، ولا يُدرَى أين ذهب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة ، فالله أعلم .
فلما أصبحوا ، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول ، فوهبهم له فلما كلّمته الأوس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأَوْسِ أنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ ؟ » قالوا : بلى ، قال : «فَذَاكَ إلى سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ » وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده ، كانت تداوي الجَرْحَى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : «اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفِيْدَةَ حتى أعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ » فلما حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فاحتملوه على حمار ، وقد وطئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلاً جسيما ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك ذلك لتُحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل ، فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ من كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال : قوموا إلى سيدكم ، فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك مواليَك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، إن الحكم فيهم كما حكمت ، قال : نعم ، قال : وعلى من ههنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَعَمْ » ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال ، وتقسّم الأموال ، وتْسبى الذراري والنساء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : فحدثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ » ، ثم استنزلوا ، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارث امرأة من بني النّجار . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة ، التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالاً ، وفيهم عدوّ الله حُيَيّ بن أخطب ، وكعب بن أسد رأس القوم ، وهم ستّ مئة أو سبع مئة ، والمكثر منهم يقول : كانوا من الثمان مئة إلى التسع مئة ، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً : يا كعب ، ما ترى ما يُصنع بنا ؟ فقال كعب : أفي كلّ موطن لا تعقلون ؟ ألا ترون الداعي لا ينزع ، وإنه من يُذهب به منكم فما يرجع ، هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأُتي بحُييّ بن أخطب عدوّ الله ، وعليه حلة له فُقّاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة ، لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يُخْذَل ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس ، إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب الله وقدره ، وملحمة قد كُتِبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه فقال جبل بن جوّال الثعلبي :
لعَمرُكَ مَا لامَ ابنُ أخْطَبَ نَفْسه *** ولكنّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللّهَ يُخْذَلِ
لجَاهَدَ حتى أبْلَغَ النّفْسَ عُذْرَها *** وقَلْقَلَ يَبغي العِزّ كلّ مُقَلْقَلِ
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : لم يقتل من نسائهم إلاّ امرأة واحدة ، قالت : والله إنها لعندي تحدّث معي وتضحك ظهرا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق ، إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة ؟ قالت : أنا والله . قالت : قلت : ويلك ما لك ؟ قالت : أقتل ؟ قلت : ولِمَ ؟ قالت : لحدث أحدثته قال : فانطلق بها ، فضُربت عنقها ، فكانت عائشة تقول : ما أنسى عجبي منها طيب نفس ، وكثرة ضحك ، وقد عرفت أنها تُقتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني زيد بن رومان وأنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ والصياصي : الحصون والاَطام التي كانوا فيها وَقذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ .
حدثنا عمرو بن مالك البكري ، قال : حدثنا وكيع بن الجرّاح وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة مِنْ صَياصِيهِمْ قال : من حصونهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مِنْ صَياصِيهِمْ يقول : أنزلهم من صياصيهم ، قال : قصورهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله مِنْ صَياصِيهِمْ : أي من حصونهم وآطامهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأَنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ قال : الصياصي : حصونهم التي ظنوا أنها مانعتهم من الله تبارك وتعالى .
وأصل الصياصي : جمع صيصة يقال : وعنى بها ههنا : حصونهم والعرب تقول لطرف الجبل : صيصة ويقال لأصل الشيء : صيصة يقال : جزّ الله صيصة فلان : أي أصله ويقال لشوك الحاكة : صياصي ، كما قال الشاعر :
*** كَوَقْعِ الصّياصِي فِي النّسِيجِ المُمَدّدِ ***
وهي شوكتا الديك . وقوله : وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرّعْبَ يقول : وألقى في قلوبهم الخوف منكم فَريقا تَقْتُلُونَ يقول : تقتلون منهم جماعة ، وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر عليهم وتَأْسِرُونَ فَرِيقا يقول : وتأسرون منهم جماعة ، وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَرِيقا تَقْتُلُونَ الذين ضربت أعناقهم وتَأْسِرُونَ فَرِيقا الذين سبوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان فَرِيقا تَقْتُلُونَ وتَأْسِرُونَ فَرِيقا أي قتل الرجال وسبى الذراريّ والنساء . وأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ وَديارَهُمْ وأمْوَالَهُم يقول : وملككم بعد مهلكهم أرضهم ، يعني مزارعهم ومغارسهم وديارهم يقول : ومساكنهم وأموالهم يعني سائر الأموال غير الأرض والدور .
وقوله : وأرْضا لَمْ تَطَئُوها اختلف أهل التأويل فيها ، أيّ أرض هي ؟ فقال بعضهم : هي الروم وفارس ونحوها من البلاد التي فتحها الله بعد ذلك على المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأرْضا لَمْ تَطَئُوها قال : قال الحسن : هي الروم وفارس ، وما فتح الله عليهم .
وقال آخرون : هي مكة . وقال آخرون : بل هي خيبر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان وأرْضا لَمْ تَطَئُوها قال : خيبر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ قال : قُرَيظة والنضير أهل الكتاب وأرْضا لَمْ تَطَئُوها قال : خيبر .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض بني قريظة وديارهم وأموالهم ، وأرضا لم يطئوها يومئذٍ ولم تكن مكة ولا خَيبر ، ولا أرض فارس والروم ولا اليمن ، مما كان وطئوه يومئذٍ ، ثم وطئوا ذلك بعد ، وأورثهموه الله ، وذلك كله داخل في قوله وأرْضا لَمْ تَطَئُوها لأنه تعالى ذكره لم يخصص من ذلك بعضا دون بعض . وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرا يقول تعالى ذكره : وكان الله على أن أورث المؤمنين ذلك ، وعلى نصره إياهم ، وغير ذلك من الأمور قدرة ، لا يتعذّر عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء حاول فعله .
{ وأنزل الذين ظاهروهم } ظاهروا الأحزاب . { من أهل الكتاب } يعني قريظة . { من صياصيهم } من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك . { وقذف في قلوبهم الرعب } الخوف وقرئ بالضم . { فريقا تقتلون وتأسرون فريقا } وقرئ بضم السين روي : أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب فقال : أتنزع لامتك والملائكة لم يضعوا السلاح أن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، فحاصرهم إحدى وعشرين أو خمسا وعشرين حتى جهدهم الحصار فقال لهم : تنزلون على حكمي فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ، فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة .
وقوله تعالى : { وأنزل الذين ظاهروهم } يريد بني قريظة بإجماع من المفسرين ، قال الرماني وقال الحسن الذين أنزلوا { من صياصيهم } بنو النضير ، وقال الناس : هم بنو قريظة ، وذلك أنهم لما غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروا الأحزاب عليه أراد الله تعالى النقمة منهم ، فلما ذهب الأحزاب جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهر فقال : يا محمد إن الله تعالى يأمرك بالخروج إلى بني قريظة ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس وقال لهم : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » ، فخرج الناس إليها ووصلها قوم من الصحابة بعد العشاء وهم لم يصلوا العصر وقوفاً مع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخطئهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وصلى قوم في الطريق ورأوا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج مخرج التأكيد فلم يخطئهم أيضاً ، وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة خمساً وعشرين ليلة ، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي ، وكان بينهم وبين الأوس حلف فرجوا حنوه عليهم ، فحكم فيهم سعد بأن تقتل المقاتلة ، وتسبى الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار ، فقالت له الأنصار ، فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن تكون لهم أموال ، كما لكم أموال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة ){[9492]} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجالهم فأخرجوا أرسالاً{[9493]} وضرب أعناقهم وهم من الثمانمائة إلى التسعمائة ، وسيق فيهم حيي بن أخطب النضري وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما ذهب الأحزاب دخل عندهم وفاء لهم ، فأخذه الحصر حتى نزل فيمن نزل على حكم سعد ، فلما نزل وعليه حلتان فقاحيتان{[9494]} ، ويداه مجموعة إلى عنقه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : والله يا محمد أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولقد اجتهدت ، ولكن من يخذل الله يخذل ، ثم قال : أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل{[9495]} ثم تقدم فضربت عنقه ، وفيه يقول جبل بن حوال الثعلبي : [ الطويل ]
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه . . . ولكنه من يخذل الله يخذل
لأجهد حتى أبلغ النفس عذرها . . . وقلقل يبغي العز كل مقلقل{[9496]}
و { ظاهروهم } معناه عاونوهم ، وقرأ عبد الله بن مسعود «آزروهم » وهي بمعنى { ظاهروهم } و «الصياصي » : الحصون ، واحدها صيصة وهي كل ما يمتنع به ، ومنه يقال لقرون البقر الصياصي ، والصياصي أيضاً : شوك الحاكة{[9497]} ، وتتخذ من حديد ، ومنه قول دريد بن الصمة : [ الطويل ]
كوقع الصاصي في النسيخ الممدّد{[9498]} . . .
والفريق المقتول : الرجال المقاتلة ، والفريق المأسور : العيال والذرية ، وقرأ الجمهور «وتأسِرون » بكسر السين ، وقرأ أبو حيوة «تأسُرون » بضم السين .
كان يهود قريظة قد أعانوا الأحزاب وحاصروا المدينة معهم وكان حُيَيّ بنُ أخطب من بني النضير منضماً إليهم وهو الذي حرّض أبا سفيان على غزو المدينة . فلما صرف الله الأحزاب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريظة وهم فريق من اليهود يعرفون ببني قريظة وكانت منازلهم وحُصونهم بالجَنوب الشرقي من المدينة تعرف قريتهم باسمهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاد إلى المدينة من الخندق ظُهراً وكان بصدد أن يغتسل ويَستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أنْ لا يصليَنَّ أحدُكم العصر إلا في بني قريظة . وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحواً من عشرين ليلة ، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمِعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكّم حكَم في صفة ذلك التسليم . ويقال لهذا النوع من المصالحة : النزول على حُكم حَكَم ، فأرسلوا شَاس بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجَلاء على أن لهم ما حَملَتْ الإبلُ إلا الحَلَقة ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سَعْد بن معاذ ، فحكم سعد أن تقتل المقَاتِلة وتُسبَى النساء والذَّراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة .
ومعنى { ظاهروهم } ناصروهم وأعانوهم ، وتقدم في قوله تعالى : { ولم يظاهروا عليكم أحداً } في سورة براءة ( 4 ) .
والإنزال : الإهباط ، أي : من الحصون أو من المعتصمات كالجبال .
والصياصي : الحصون ، وأصلها أنها جمع صِيصَيَة وهي القَرْن للثَّوْر ونحوه . قال عبد بني الحسحاس :
فأصبحت الثيرانُ غرقَى وأصبحت *** نساءُ تميم يلتقطن الصَّيَاصيا
أي : القرون لبيعها . كانوا يستعملون القرون في مناسِج الصوف ويتخذون أيضاً منها أوعية للكحل ونحوه ، فلما كان القرن يدافع به الثوْر عن نفسه سمي المَعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصونُ صياصيَ .
والقذف : الإلقاء السريع ، أي : جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين . والفريق الذين قُتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أُسروا هم النساء والصبيان .
والخطاب من قوله { فريقاً تقتلون } إلى آخره . . . للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله : { يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نِعمة الله عليكم إذْ جاءَتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً } [ الأحزاب : 9 ] الآية ، أي : فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم وأنصارهم . وتقديم المفعول في { فريقاً تقتلون } للاهتمام بذكره لأن ذلك الفريق هم رجال القبيلة الذين بقتلهم يتم الاستيلاء على الأرض والأموال والأسرى ، ولذلك لم يقدم مفعول { تأسرون } إذ لا داعي إلى تقديمه فهو على أصله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر يهود أهل قريظة حيي بن أخطب ومن معه، الذين أعانوا المشركين يوم الخندق على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} أعانوهم، تعني اليهود أعانوا المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
{من أهل الكتاب} قريظة {من صياصيهم} من حصونهم.
{وقذف في قلوبهم الرعب فريقا} طائفة {تقتلون} فقتل منهم أربعمائة وخمسين رجلا.
{وتأسرون فريقا} وتسبون طائفة سبعمائة وخمسين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك هو مظاهرتهم إياه، وعنى بذلك بني قريظة، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله "مِنْ أهْلِ الكِتابِ "يعني: من أهل التوراة، وكانوا يهود: وقوله: "منْ صَياصِيهمْ" يعني: من حصونهم...
عن قتادة، قوله: "وأنْزَلَ الّذينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ" وهم بنو قُرَيظة، ظاهروا أبا سفيان وراسلوه، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبيّ الله. قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه، وقد غسلت شقه، إذ أتاه جبرائيل صلى الله عليه وسلم، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة، فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبلبال قال: فاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلك سكة بني غنم، فاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بالتراب قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناداهم: يا إخوان القردة، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فحاشا، فنزلوا على حكم ابن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة، وأومأ إليهم أبو لبابة أنه الذبح، فأنزل الله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتكمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال قومه وعشيرته: آثرت المهاجرين بالعقار علينا قال: فإنكم كنتم ذوي عقار، وإن المهاجرين كانوا لا عقار لهم. وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال: «قَضَى فِيكُمْ بِحُكْمِ اللّهِ»...
وقوله: "وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرّعْبَ" يقول: وألقى في قلوبهم الخوف منكم "فَريقا تَقْتُلُونَ" يقول: تقتلون منهم جماعة، وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر عليهم، "وتَأْسِرُونَ فَرِيقا" يقول: وتأسرون منهم جماعة، وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنّ الحقَّ -سبحانه- إذا أجمل أكمل، وإذا شفى كفى، وإذا وفى أوفى. فأظفر المسلمين عليهم، وأورثهم معاقلَهم، وأذلّ مُتعزِّزَهم، وكفاهم بكلِّ وجهٍ أمرهم، ومكَّنهم من قَتْلِهم وأسرِهم ونهْبِ أَموالهم، وسَبى ذراريهم.
{وقذف} فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبب الإنزال، ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر، قدم الإنزال على قذف الرعب، والله أعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}: وهو الخوف؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلب الفال، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال تعالى: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم أمر الأحزاب، أتبعه حال الذين ألّبوهم، وكانوا سبباً في إتيانهم كحيي بن أخطب والذين مالأوهم على ذلك، ونقضوا ما كان لهم من عهد، فقال: {وأنزل الذين ظاهروهم}.
ثم بينهم بقوله مبعضاً: {من أهل الكتاب} وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير كحيي، وكان ذلك بعد إخراج بني قينقاع وبني النضير {من صياصيهم}
ولما كان الإنزال من محل التمنع عجباً، وكان على وجوه شتى، فلم يكن صريحاً في الإذلال، فتشوفت النفس إلى بيان حاله، بين أنه الذل فقال عاطفاً بالواو ليصلح لما قبل ولما بعد: {وقذف في قلوبهم الرعب} أي بعد الإنزال كما كان قذفه قبل الإنزال، فلو قدم القذف على الإنزال لما أفاد هذه الفوائد، ولا اشتدت ملاءمة ما بعده للإنزال.
ولما ذكر ما أذلهم به، ذكر ما تأثر عنه مقسماً له فقال: {فريقاً} فذكره بلفظ الفرقة ونصبه ليدل بادئ بدء على أنه طوع لأيدي الفاعلين: {تقتلون} وهم الرجال، وكان نحو سبعمائة.
ولما بدأ بما دل على التقسيم مما منه الفرقة، وقد أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب، أولاه الأثر الآخر ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة فقال: {وتأسرون فريقاً} ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم، وقدم في الرجال لتحتم القتل فيهم...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} أي الخوف الشديد بحيث أسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلاً عن المخالفة والاستعصاء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم، وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء، وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية؛ ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها، ولاتجاهها وتصوراتها، وتستقر القيم وتطمئن القلوب، بالابتلاء وبالقرآن سواء!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإنزال: الإهباط، أي: من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.
والقذف: الإلقاء السريع، أي: جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.. وهو جندي من جنود الله، وهذا الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الكافرين هو الذي فرقهم، ولم يجعل لكثرة العدد لديهم قيمة، وما فائدة أعداد كثيرة خائفة مذعورة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. (4)} [المنافقون].
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -بيان عاقبة الغدر فإِن قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن آخرهم ولم يبق إلاّ الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال.