قوله تعالى : { فلولا } فهلا { نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهةً } يعني : الأوثان ، اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله عز وجل ، القربان : كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل ، وجمعه : قرابين ، كالرهبان والرهابين . { بل ضلوا عنهم } قال مقاتل : بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم ، { وذلك إفكهم } أي كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم ، { وما كانوا يفترون } يكذبون أنها آلهة .
فلما لم يؤمنوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ولهذا قال هنا : { فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً } أي : يتقربون إليهم ويتألهونهم لرجاء نفعهم .
{ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } فلم يجيبوهم ولا دفعوا عنهم ، { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } من الكذب الذي يمنون به أنفسهم حيث يزعمون أنهم على الحق وأن أعمالهم ستنفعهم فضلت وبطلت .
{ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ } أى : فهلا نصرهم ومنعهم من الهلاك . هؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من دون الله قربانا يتقربون بهم إليه - سبحانه - كما قالوا { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } " فلولا " هنا حرف تحضيض بمعنى " هلا " والمفعول الأول لاتخذوا محذوف أى : الذين اتخذوهم ، و { آلِهَةَ } هو المفعول الثانى ، و " قربانا " حال . وهو كل ما يتقرب به إلى الله - تعالى - من طاعة أو نسك . والجمع قرابين .
وقوله - تعالى - : { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } إضراب انتقالى عن نفى النصرة إلى ما هو أشد من ذلك .
أى : أن هؤلاء الآلهة لم يكتفوا بعدم نصر أولئك الكافرين ، بل غابوا عنهم وتركوهم وحدهم ، ولم يحضروا إليهم . . وذلك الغياب الذى حدث من آلهتهم عنهم . مظهر من مظاهر كذب هؤلاء الكافرين وافترائهم على الحق فى الدنيا . حيث زعموا أن هذه الآلهة الباطلة ستشفع لهم يوم القيامة ، وقالوا - مكا حكى القرآن عنهم - : { هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله . . . } وما هم اليوم لا يرون آلهتهم ، ولا يجدون لهم شيئا من النفع .
يقول تعالى ذكره لكفار قريش محذّرهم بأسه وسطوته ، أن يحلّ بهم على كفرهم وَلَقَدْ أهْلَكْنا أيها القوم من القُرَى ما حول قريتكم ، كحِجْرِ ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها ، فأنذرنا أهلها بالمَثُلات ، وخرّبنا ديارها ، فجعلناها خاوية على عروشها .
وقوله : وَصَرّفْنا الاَياتِ يقول : ووعظناهم بأنواع العظات ، وذكرناهم بضروب من الذّكْر والحجج ، وبيّنا لهم ذلك . كما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَصَرّفْنا الاَياتِ قال بيّناها لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول ليرجعوا عما كانوا عليه مقيمين من الكفر بالله وآياته . وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه ، وهو : فأبوا إلا الإقامة على كفرهم ، والتمادي في غيهم ، فأهلكناهم ، فلن ينصرهم منا ناصر يقول جلّ ثناؤه : فلولا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقرّبون بها فيما زعموا إلى ربهم منا إذ جاءهم بأسنا ، فتنقذهم من عذابنا إن كانت تشفع لهم عند ربهم كما يزعمون ، وهذا احتجاج من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مُشركي قومه ، يقول لهم : لو كانت آلهتكم التي تعبدون من دون الله تغني عنكم شيئا ، أو تنفعكم عند الله كما تزعمون أنكم إنما تعبدونها ، لتقرّبكم إلى الله زلفى ، لأغنت عمن كان قبلكم من الأمم التي أهلكتها بعبادتهم إياها ، فدفعت عنها العذاب إذا نزل ، أو لشفعت لهم عند ربهم ، فقد كانوا من عبادتها على مثل الذي عليه أنتم ، ولكنها ضرّتهم ولم تنفعهم : يقول تعالى ذكره : بل ضلوا عنهم يقول : بل تركتهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فأخذت غير طريقهم ، لأن عبدتها هلكت ، وكانت هي حجارة أو نحاسا ، فلم يصبها ما أصابها ودعوها ، فلم تجبهم ، ولم تغثهم ، وذلك ضلالها عنهم ، وذلك إفكهم ، يقول عزّ وجلّ هذه الاَلهة التي ضلّت عن هؤلاء الذين كانوا يعبدونها من دون الله عند نزول بأس الله بهم ، وفي حال طمعهم فيها أن تغيثهم ، فخذلتهم ، هو إفكهم : يقول : هو كذبهم الذي كانوا يكذّبون ، ويقولون هؤلاء آلهتنا وما كانوا يفترون ، يقول : وهو الذي كانوا يفترون ، فيقولون : هي تقرّبنا إلى الله زُلفى ، وهي شفعاؤنا عند الله . وأخرج الكلام مخرج الفعل ، والمعنيّ المفعول به ، فقيل : وذلك إفكهم ، والمعنيّ فيه : المأفوك به لأن الإفك إنما هو فعل الاَفك ، والاَلهة مأفوك بها . وقد مضى البيان عن نظائر ذلك قبل ، قال : وكذلك قوله : وَما كانُوا يَفْتَرُونَ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله وَذَلك إفْكُهُمْ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وذلك إفكهم بكسر الألف وسكون الفاء وضم الكاف بالمعنى الذي بيّنا . ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ما :
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عمن حدثه ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأها «وَذَلِكَ أَفْكَهُمْ » يعني بفتح الألف والكاف وقال : أضلهم . فمن قرأ القراءة الأولى التي عليها قرّاء الأمصار ، فالهاء والميم في موضع خفض . ومن قرأ هذه القراءة التي ذكرناها عن ابن عباس فالهاء والميم في موضع نصب ، وذلك أن معنى الكلام على ذلك ، وذلك صرفهم عن الإيمان بالله .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، القراءة التي عليها قرأة الأمصار لإجماع الحجة عليها .