اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢۖ بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡۚ وَذَٰلِكَ إِفۡكُهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (28)

قوله تعالى : { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ } القُرْبَانُ ما تُقُرِّب به إلى الله .

أي اتخذوها شفعاء وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله{[51067]} { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .

قوله : { قُرْبَاناً } فيه أربعة أوجه :

أظهرها : أن المفعول الأول ل «اتَّخَذَ » محذوف ، هو عائد . . . . . «قُرْبَاناً » نصب على الحال ، و«آلِهَةً » هو المفعول الثاني للاتِّخَاذ ، والتقدير . . . . . نَصَرَهُم الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مُتَقَرَّباً بهم آلهة{[51068]} .

والثاني : أن المفعول الأول محذوف كما تقدم و«قُرْبَاناً » مفعولاً ثانياً و«آلهة » بدل منه{[51069]} . وإليه نحا أبن عطية والحَوْفِيُّ{[51070]} وأبو البقاء{[51071]} ، إلا أن الزمخشري منع هذه الوجه قال : «الفساد المعنى »{[51072]} . ولم يبين جهة الفاسد . قال أبو حيان : ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب{[51073]} . قال شهاب الدين : ووجه الفساد والله أعلم أن القُرْبَانَ اسم لما تقرب به إلى الإله ، فلو جعلناه مفعولاً ثانياً و«آلهةً » بدلاً منه لزم أن يكون الشيء المُتَقَرَّبُ به آلهةً والغرض أنه غيرُ آلهة . بل هو شيء يتقرب به إليها فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلاً منه ؟ وهذا مَا لاَ يَجُوزُ{[51074]} .

الثالث : أن «قرباناً » مفعولٌ من أجله . وعزاه أبو حيان للحَوْفي{[51075]} . وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً{[51076]} . وعلى هذا ف «آلِهَةً » مفعولٌ ثان ، والأول محذوف كما تقدم .

الرابع : أن يكون مصدراً . نقله مكي{[51077]} . ولولا أنه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعول من أجله لكان كلامه مؤولاً بأنه أراد بالمصدر المفعول من أجله لبُعْدِ معنى المصدر .

قوله : { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } قال مقاتل : بل ضلت الآلهة عنهم فلم ينفعهم عد نزول العذاب لهم .

قوله : { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } العامة على كسر الهمزة ، وسكون الفاء ، مصدر أَفِكَ يَأفِكُ إفْكاً ، أي كَذِبُهُمْ وابن عباس بالفتح{[51078]} وهو مصدر له أيضاً . وابن عباس أيضا وعكرمة والصَّباح بنْ العلاء أَفَكَهُمْ{[51079]} بثلاث فتحات فعلاً ماضياً ، أي صَرَفَهُمْ . وأبو عياض{[51080]} وعكرمة أيضاً كذلك ، إلا أنه بتشديد الفاء للتكثير{[51081]} ، وابن الزبير{[51082]} ، وابن عباس أيضاً آفَكَهُمْ{[51083]} بالمد فعلا ماضياً أيضاً . وهو يحتمل أن يكون بزنة فَاعَل{[51084]} ، فالهمزة أصلية ، وأن يكون بزنة أَفْعَلَ{[51085]} فالهمزة زائدة والثانية بدل من همزة .

وإذا قلنا : إنه أفعل ، فهمزته يحتمل أن تكون للتعدية{[51086]} ، وأن تكون أفعل بمعنى المُجَرّد{[51087]} وابن عباس أيضاً آفكُهُمْ بالمد وكسر الفاء ، ورفع الكاف جعله اسم فاعل بمعنى صارفهم . وقرى أَفَكُهُمْ{[51088]} بفتحتين ورفع الكاف على أنه مصدر لأفِكَ أيضاً فيكون له ثلاثة مصادر الإفك والأَفك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء ، وزاد أبو البقاء أنه قرئ : آفَكُهُمْ بالمد وفتح الفاء ، ورفع الكاف قال : بمعنى أَكْذَبُهُمْ{[51089]} . فجعله أفعل تفضيل .

قوله : { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يجوز أن تكون ما مصدرية ، وهو الأحسن ، ليعطف على مثله ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي يَفْتَرُونَهُ والمصدر من قوله : «إفكهم » يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل بمعنى كُذِبُهُمْ ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفُهُمْ .

والمعنى : وذلك إفكهم أي كذبهم الذي كانوا يقولون : إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يكذبونَ أنَّها آلِهَةٌ{[51090]} .


[51067]:القرطبي 16/209.
[51068]:بالمعنى من الكشاف 3/526 وإلى هذا ذهب أبو حيان في البحر 8/66 وقد أخذه على ما أظن من الزمخشري الأسبق.
[51069]:البحر المرجع السابق.
[51070]:ذكر أبو حيان رأيهما في المرجع السابق.
[51071]:التبيان 1159 وقد ذكر ابن الأنباري في البيان أيضا 2/372.
[51072]:الكشاف السابق.
[51073]:الكشاف السابق، والبحر المرجع السابق.
[51074]:الدر المصون للسمين مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم 98.
[51075]:البحر المحيط المرجع السابق. وقد ذكر هذا الوجه ابن الأنباري في البيان المرجع السابق.
[51076]:التبيان 1159.
[51077]:مشكل إعراب القرآن له 2/303 وذكره ابن الأنباري في البيان المرجع السابق.
[51078]:في رواية كما ذكر ذلك صاحب البحر المحيط 8/66 وذكرها أيضا صاحب اللسان أفك 97 وهي شاذة متواترة.
[51079]:فعلا ماضيا ـ كما ذكرـ وهي شاذة ذكرها أبو الفتح في المحتسب 2/267، وابن خالويه في المختصر 139 وانظر أيضا معاني القرآن للفراء 2/59.
[51080]:التبيان 1159 و1160.
[51081]:المحتسب والمختصر المرجعين السابقين وهي شاذة أيضا.
[51082]:عبد اله بن الزبير الصحابي المعروف.
[51083]:المرجعين السابقين ومعاني القرآن للزجاج 4/446 وهي شاذة أيضا.
[51084]:كقاتل.
[51085]:كأكرم.
[51086]:أي صارهم إلى الإفك أو وجدهم كذلك كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا.
[51087]:مثل صد أو أصد. وانظر المحتسب 2/267 و268.
[51088]:وهي رواية قطرب وأبي الفضل الرازي البحر 8/66 وهي قراءة شاذة. معاني القرآن للفراء 3/59 وانظر المحتسب المرجع السابق وهي شاذة كسابقتها.
[51089]:ولم يعين من قرأ بها وهي قراءة شاذة انظر التبيان 1158.
[51090]:معنى كلام أبي حيان ف البحر 8/67.