الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢۖ بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡۚ وَذَٰلِكَ إِفۡكُهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (28)

قوله : { قُرْبَاناً آلِهَةَ } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أوجَهُها : أنَّ المفعولَ الأولَ ل " اتَّخذوا " محذوفٌ هو عائدُ الموصولِ . " وقُرْباناً " نُصِبَ على الحال و " آلهةً " هو المفعولُ الثاني للاتخاذ . والتقدير : فهَلاَّ نَصَرهم الذين اتَّخَذُوْهم مُتَقَرَّباً بهم آلهةً . الثاني : أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ ، كما تقدَّم تقريرُه ، و " قُرْباناً " مفعولاً ثانياً و " آلهةً " بدلٌ منه . وإليه نحا ابنُ عطية والحوفيُّ وأبو البقاء . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ هذا الوجهَ قال : " لفسادِ المعنى " ، ولم يُبَيِّنْ جهةَ الفساد . قال الشيخ : " ويَظْهَرُ أنَّ المعنى صحيحٌ على ذلك الإِعراب " قلت : ووجهُ الفسادِ - واللَّهُ أعلم - أنَّ القُرْبان اسمٌ لِما يُتَقَرَّبُ به إلى الإِله ، فلو جَعَلْناه مفعولاً ثانياً ، وآلهةً بدلاً منه لَزِمَ أَنْ يكونَ الشيءُ المتقرَّبُ به آلهةً ، والفَرَضُ أنه غيرُ الآلهةِ ، بل هو شيءٌ يُتَقَرَّب به إليها فهو غيرُها ، فكيف تكون الآلهةُ بدلاً منه ؟ هذا ما لا يجوزُ . الثالثُ : أنَّ " قُرْباناً " مفعولٌ مِنْ أجلِه ، وعزاه الشيخُ للحوفيِّ . قلت : وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً ، وعلى هذا ف " آلهةً " مفعول ثانٍ والأولُ محذوفٌ كما تقدَّم . الرابع : أَنْ يكونَ مصدراً ، نقله مكيٌّ . ولولا أنَّه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعولُ مِنْ أجلِه لأوَّلْتُ كلامَه : أنَّه أراد بالمصدرِ المفعولَ مِنْ أجلِهِ لبُعْدِ معنى المصدر .

قوله : " إفْكُهم " العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ وسكونِ الفاءِ ، مصدرُ أَفَكَ يَأْفِك إفْكاً أي : كَذِبُهم . وابن عباس بالفتح وهو مصدرٌ له أيضاً . وابنُ عباس أيضاً وعكرمة والصباح بن العلاء " أَفَكَهُمْ " بثلاثِ فتحات فعلاً ماضياً . أي : صَرَفَهم . وأبو عياض وعكرمةُ أيضاً ، كذلك إلاَّ أنَّه بتشديد الفاءِ للتكثير . وابن الزبير وابن عباس أيضاً " آفَكَهم " بالمدِّ فعلاً ماضياً أيضاً ، وهو يحتملُ أَنْ يكونَ بزنةِ فاعَلَ ، فالهمزةُ أصليةٌ ، وأَنْ يكونَ بزنةِ أَفْعَل ، فالهمزةُ زائدةٌ والثانيةُ بدلٌ مِنْ همزةٍ . وإذا قلنا : إنه أَفْعَلَ فهمزتُه تحتملُ أَنْ تكونَ للتعديةِ ، وأَنْ يكونَ أَفْعَلَ بمعنى المجرد . وابنُ عباس أيضاً : " آفِكُهم " بالمدِّ وكسرِ الفاءِ ورَفْعِ الكافِ ، جعله اسمَ فاعلٍ بمعنى صارِفهم . وقُرِئ " أَفَكُهم " بفتحتين ورفعِ الكافِ على أنَّه مصدرٌ لأَفَكَ أيضاً فتكونُ له ثلاثةُ مصادرَ : الأَفْكُ والإِفْكُ بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء . وزاد أبو البقاء أنه قُرِئ " آفَكُهم " بالمدِّ وفتحِ الفاءِ ورفعِ الكافِ . قال : " بمعنى أَكْذَبُهم " فجعله أفْعَلَ تفضيلٍ .

قوله : { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } / يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً وهو الأحسنُ ليُعْطَفَ على مثلِه ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي : يَفْتَرُونه . والمصدرُ مِنْ قولِه : " إفْكُهم " يجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً إلى الفاعلِ بمعنى كَذبِهم ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفِهم .