قوله تعالى : { أفغير دين الله يبغون } . وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا ، فادعى كل واحد أنه على دين إبراهيم عليه السلام ، واختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم عليه السلام ، فغضبوا وقالوا : لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك ، فأنزل الله تعالى : ( أفغير دين الله يبغون ) . قرأ أهل البصرة وحفص عن عاصم " يبغون " بالياء لقوله تعالى ( وأولئك هم الفاسقون ) وقرأ الآخرون بالتاء ، لقوله تعالى لما آتيتكم .
قوله تعالى : { وله أسلم }خضع وانقاد .
قوله تعالى : { من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً } فالطوع : الانقياد والاتباع بسهولة ، والكره : ما كان بمشقة وإباء من النفس . واختلفوا في قوله طوعاً وكرها ، قال الحسن : أسلم أهل السماوات طوعاً ، وأسلم من في الأرض بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً ، خوفاً من السيف والسبي ، وقال مجاهد : طوعاً المؤمن ، وكرهاً ذلك الكافر ، بدليل ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال ) وقيل : هذا يوم الميثاق حين قال لهم ( ألست بربكم ؟ قالوا بلى ) فقال بعضهم : طوعاً وبعضهم : كرهاً ، وقال قتادة : المؤمن من أسلم طوعاً فنفعه الإيمان ، الكافر أسلم كرهاً في وقت اليأس فلم ينفعه الإسلام . قال الله تعالى ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) وقال الشعبي : هو استعاذتهم به عند اضطرارهم . كما قال الله تعالى ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) . وقال الكلبي : طوعاً الذي ولد في الإسلام ، وكرهاً الذي أجبروا على الإسلام ممن يسبى منهم فيجاء بهم في السلاسل .
قوله تعالى : { وإليه يرجعون } قرأ بالياء حفص عن عاصم ويعقوب ، كما قرأ يبغون بالياء . وقرأ الآخرون بالتاء فيهما إلا أبو عمرو فإنه قرأ
" يبغون " بالياء و " ترجعون " بالتاء ، قال : لأن الأول خاص والثاني عام ، لأن مرجع جميع الخلق إلى الله عز وجل .
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
أي : أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله ؟ لا يحسن هذا ولا يليق ، لأنه لا أحسن دينا من دين الله { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } أي : الخلق كلهم منقادون بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا ، وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم ، وكرها وهم سائر الخلق ، حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره لا خروج لهم عنه ، ولا امتناع لهم منه ، وإليه مرجع الخلائق كلها ، فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل .
وبعد أن بين - سبحانه - أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم حق لا ريب فيه ، وأنه واجب على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، عقب ذلك ببيان أن كل من كره الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يكون بعيدا عن الدين الحق ، مستحقا للعقاب الأليم فقال - تعالى - { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } .
والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، وهمزة الاستفهام داخلة على فعل محذوف ، والفاء الداخلة على " غير " عاطفة لجملة { يَبْغُونَ } على ذلك المحذوف الذى دل عليه الاستفهام وعينه المقام .
والمعنى : أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون دينا غير دين الله الذى هو الإسلام .
ومعنى { يَبْغُونَ } يطلبون . يقال بغى الأمر يبغيه بغاء - بضم الباء - أى طلبه . وقوله - تعالى - { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } جملة حالية . أى أيبغون دينا غير دين الله والحال أن الله - تعالى - استسلم وانقاد وخضع له من فى السموات والأرض طوعا وكرها . أى طائعين وكارهين فهما مصدران فى موضع الحال .
والمراد أن كل من فى السموات والأرض قد انقادوا وخضعوا لله - تعالى - إما عن طواعية واختيار وهم المؤمنون لأنهم راضون فى كل الأحوال بقضائه وقدره ، ومستجيبون له فى المنشط والمكره والعسر واليسر . وإما عن تسخير وقهر وهم الكافرون لأنهم واقعون تحت سلطانه العظيم وقدرته النافذة ، فهم مع كفرهم لا يستطيعون دفع قضائه - سبحانه - وإذن فهم خاضعون لسلطانه - عز وجل - لأنهم لا سبيل لهم ولا لغيرهم إلى الامتناع عن دفع ما يريده بهم .
هذا ، وقد ساق الفخر الرازى جملة آراء فى معنى الآية الكريمة ثم اختار أحدها فقال ما ملخصه : فى خضوع من فى السموات والأرض لله وجوه : أصحها عندى أن كل ما سوى الله - سبحانه - ممكن لذاته ، ولك ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ، ولا يعدم إلا بإعدامه ، فإن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله فى طرفى وجوده وعدمه . وهذا هو نهاية الخضوع والانقياد . ثم إن فى هذا الوجه لطيفة آخرى : وهى أن قوله
{ وَلَهُ أَسْلَمَ } يفيد الحصر ، أى وله كل ما فى السموات والأرض لا لغيره .
فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد ، وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ، ولا يفنى إلا بإفنائه والآيات فى هذا المعنى كثيرة .
وقوله { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أى إليه وحده يرجع الخلق فيجازى كل مخلوق بما يستحقه من خير أو شر .
ففى الجملة الكريمة تحذير من الإعراض عن دينه ، لأنه ما دام مرجع الخلق جميعا إليه - سبحانه - فعلى العاقل أن يسلم نفسه إلى خالقه اختياراً قبل أن يسلمها اضطرارا ، وأن يستجيب لأوامره ونواهيه ، حتى ينال رضاه .
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد أقامت للناس الأدلة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم وأمرتهم بالدخول فى دينه ، وحذرتهم من الإعراض عنه بأجلى بيان وأقوى برهان .
إن دين الله واحد ، جاءت به الرسل جميعا ، وتعاقدت عليه الرسل جميعا . وعهد الله واحد أخذه على كل رسول . والإيمان بالدين الجديد واتباع رسوله ، ونصرة منهجه على كل منهج ، هو الوفاء بهذا العهد . فمن تولى عن الإسلام فقد تولى عن دين الله كله ، وقد خاس بعهد الله كله .
والإسلام - الذي يتحقق في إقامة منهج الله في الأرض واتباعه والخلوص له - هو ناموس هذا الوجود . وهو دين كل حي في هذا الوجود .
إنها صورة شاملة عميقة للإسلام والاستسلام . صورة كونية تأخذ بالمشاعر ، وترتجف لها الضمائر . . صورة الناموس القاهر الحاكم ، الذي يرد الأشياء والأحياء إلى سنن واحد وشرعة واحدة ، ومصير واحد .
فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبر الجليل . .
ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله ، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه ، وفي نظام حياته ، وفي منهج مجتمعه ، ليتناسق مع النظام الكوني كله . فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه ، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه ، في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون ، وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني . . والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره ، وفي واقعه وارتباطاته ، وفي عمله ونشاطه ، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها . وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق ؛ أو لا يؤدي - على كل حال - وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له . وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه ، يملك معرفة أسرارها ، وتسخيرها ، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة ، ويعفيهمن الخوف والقلق والتناحر . . الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون ، ولكن ليطبخ بها ويستدفىء ويستضيء !
والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون ، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي . فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب ، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه ، فيشقى ويتمزق ، ويحتار ويقلق . ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب - على الرغم من جميع الانتصارات العلمية ، وجميع التسهيلات الحضارية المادية !
إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير . خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها . . حقيقة الإيمان . . وخواء حياتها من المنهج الإلهي . هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه .
إنها تعاني من الهجير المحرف الذي تعيش فيه بعيدا عن ذلك الظل الوارف الندي . ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيدا عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق !
ومن ثم تجد الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب ؛ وتحس الخواء والجوع والحرمان ؛ وتهرب من واقعها هذا بالأفيون والحشيش والمسكرات ؛ وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء ، والشذوذ في الحركة واللبس والطعام ! وذلك على الرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسورة والفراغ الكثير . . . لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتزايد كلما تزايد الرخاء المادي والإنتاج الحضاري واليسر في وسائل الحياة ومرافقها .
إن هذا الخواء المرير ليطارد البشرية كالشبح المخيف . يطاردها فتهرب منه . ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير !
وما من أحد يزور البلاد الغنية الثرية في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون ! هاربون من أشباح تطاردهم . هاربون من ذوات أنفسهم . . وسرعان ما يتكشف الرخاء المادي والمتاع الحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل ، عن الأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والقلق والمرض والجنون والمسكرات والمخدرات والجريمة . وفراغ الحياة من كل تصور كريم !
إنهم لا يجدون أنفسهم لأنهم لا يجدون غاية وجودهم الحقيقية . . إنهم لا يجدون سعادتهم لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون ، وبين نظامهم وناموس الوجود . . إنهم لا يجدون طمأنينتهم لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون . .
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
وقرأ أبو عمرو : «يَبغون » بالياء مفتوحة ، «تُرجعون » بالتاء مضمومة ، وقرأ عاصم ، «يبغون » و «يرجعون » بالياء معجمة من تحت فيهما ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما ، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل و { تبغون } معناه : تطلبون ، و{ أسلم } في هذه الآية بمعنى : استسلم عند جمهور المفسرين ، و{ من } في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين ، واختلفوا في معنى قوله { طوعاً وكرهاً } فقال مجاهد : هذه الآية كقوله تعالى :
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله }{[3300]} فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرهاً .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا عموم في لفظ الآية ، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل و{ أسلم } فيه بمعنى استسلم ، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع ، وعبارته رحمه الله : كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده ، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً ، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعاً ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق ، وروي عن مجاهد أنه قال : الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر فيسجد المؤمن طوعاً ويسجد الكافر وهو كاره ، وقال الشعبي : الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره ، وذلك هو الذي يسجد كرهاً .
قال الفقيه الإمام : وهذا هو قول مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات ، وقال الحسن بن أبي الحسن : معنى الآية : أنه أسلم قوم طوعاً ، وأسلم قوم خوف السيف ، وقال مطر الوراق : أسلمت الملائكة طوعاً ، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس ، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف{[3301]} .
قال الفقيه الإمام : وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان ، والآية ظاهرها العموم ومعناها الخصوص ، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعاً ولا كرهاً على هذا حد ، وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه .
قال الفقيه الإمام : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلا في أفراد ، والمعنى في هذه الآية ، يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة ، والتوقيف بقوله { أفغَير } إنما هو لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، «أُصري » ، بضم الألف وهي لغة .
تفريع عن التذكير بما كان عليه الأنبياء .
وقرأه الجمهور { تبغون } بتاء الخطاب فهو خطاب لأهل الكتاب جارٍ على طريقة الخطاب في قوله آنفاً : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة } [ آل عمران : 80 ] وقرأه أبو عَمرو ، وحفص ، ويعقوب : بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إعراضاً عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب . وكله تفريع ذكر أحوال خلَف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به . والاستفهام حينئذ للتعجيب .
ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان ، أو لأنّ غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله .
ومعنى { تبغون } تطلبون يقال بَغى الأمرَ يبغيه بُغَاء بضم الباء وبالمد ، ويقصر والبُغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر ، وقيل اسم ، ويقال ابتغى بمعنى بغى ، وهو موضوع للطلب ويتعدّى إلى مفعول واحد . وقياس مصدره البغي ، لكنه لم يسمع البغي إلاّ في معنى الاعتداء والجور ، وذَلك فعلُه قاصر ، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء ، فأماتوا المصدر القياسي لبَغَى بمعنى طلب وخصّوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم : قال تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } [ الشورى : 42 ] ويقال تَبَغّى بمعنى ابتغى .
وجملة { وله أسلَم } » حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى : { فقل أسلمتُ وجهي للَّه } [ آل عمران : 20 ] .
ومعنى { طوعاً وكرهاً } أنّ من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له ، ومنهم من أسلم بالجبلّة والفطرة كالملائكة ، أو الإسلام كرهاً هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة ، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لاَ إكراه في الدين .
والكرهُ بفتح الكاف هو الإكراه ، والكُره بضم الكاف المكروه .
ومعنى { وإليه ترجعون } أنه يرجعكم إليه ففعل رجع المتعدّي أسند إلى المجهول . لظهور فاعله ، أي يرجعكم الله بعد الموت ، وعند القيامة ، ومناسبة ذكر هذا ، عقب التوبيخ والتحذير ، أنّ الربّ الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن دينٍ أمره به ، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختاراً قبل أن يسلمها اضطراراً .
وقد دل قوله : { وإليه ترجعون } على المراد من قوله : { وكرهاً } .
وقرأ الجمهور : وإليه تُرجعون بتاء الخطاب ، وقرأه حفص بياء الغيبة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات}: يعني الملائكة، {والأرض}: يعني المؤمنين، {طوعا}، ثم قال سبحانه: {وكرها}: يعني أهل الأديان، يقولون: الله هو ربهم، وهو خلقهم، فذلك إسلامهم، وهم في ذلك مشركون. {وإليه يرجعون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... تأويل الكلام: يا معشر أهل الكتاب: «أفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ» يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون. {وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}: وله خشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودية، وأقرّ له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية {طَوْعا وكَرْها}: أسلم لله طائعا، من كان إسلامه منهم له طائعا، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين، فإنهم أسلموا لله طائعين، وكرها من كان منهم كارها.
واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام، وصفته؛ فقال بعضهم: إسلامه: إقراره بأن الله خالقه وربه، وإن أشرك معه في العبادة غيره. كقوله: {وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ لَيَقُولُنّ اللّهُ}.
عن أبي العالية في قوله: {وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قال: كل آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص له العبودية فهو الذي أسلم طوعا.
وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ منه الميثاق، فأقرّ به. وقال آخرون: عنى بإسلام الكاره منهم: سجود ظله. وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله واستقادته لأمره، وإن أنكر ألوهته بلسانه.
وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرها حذر السيف على نفسه. وقال آخرون: معنى ذلك أن أهل الإيمان أسلموا طوعا، وأن الكافر أسلم في حال المعاينة حين لا ينفعه إسلام كرها... أما المؤمن فأسلم طائعا، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأس الله {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لمّا رَأَوْا بَأْسَنَا}.
وقال آخرون: معنى ذلك: في عبادة الخلق لله عزّ وجل. وهو قوله: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها}.
"وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ": وإليه يا معشر من يبتغي غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى! وسائر الناس. «ترجعون» يقول: إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. وهذا من الله عزّ وجلّ تحذير خلقه أن يرجع إليه أحد منهم، فيصير إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أفغير دين الله تبغون}؟ الدين كأنه يتوجه إلى وجوه: يرجع اعتقاد المذهب إلى الأصل، ويرجع إلى الحكم والخضوع كقوله: {أفحكم الجاهلية يبغون}؟ [المائدة: 50]، ويرجع إلى الجزاء. ثم قوله تعالى: {أفغير دين الله يبغون}؟ كان كل منهم يبغي دينا، وهو دين الله، ويدعي أن الدين الذي هو عليه دين الله، لكن هذا، والله أعلم، كل منهم في الابتداء كان يبغي دين الله في نفسه، لكن بان له من بعد، وظهر بالآيات والحجج أنه ليس على دين الله [الذي] هو الإسلام فلم يرجع إليه، ولا اعتقده، ولزم غيره بالاعتناد والمكابرة، فهو باغ غير دين الله...
{أفغير دين الله يبغون}؟ أي أفغير ما في دين الله من الأحكام والتوحيد، ويحتمل {أفغير دين الله} يدينون، وليس على الاستفهام، ولكن على الإيجاب أنهم في صنيعهم يبغون غير الذي هو دين الله كقوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} الآية... {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} يحتمل وجوها: {أسلم} أي استسلم، وخضع له بالخلقة، إذ في خلقة كل دلالات وحدانية،... {طوعا} من ولد في الإسلام. وكل من أسلم ولم يولد في الإسلام، فهو كره. وقيل: منهم من أسلم {طوعا} ومنهم من جبر عليه...
والإسلام هو تسليم النفس لله خالصا، لا يشرك فيه غيره كقوله: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل} الآية [الزمر: 29] دلت الآية أنه ما ذكرنا،... والإسلام هو اسم الخضوع، وكل منهم قد خضع، ولم يجترئ أحد أن يخرج عليه...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{طَوْعاً} والطوع الانقياد والاتباع بسهولة من قولهم: فرسٌ طوع العنان، أي منقاد {وَكَرْهاً} والكره: ما كان بمشقة وإباء من النفس، كرهاً بضم الكاف وهما مصدران وضعا موضع الحال، كأنّه قال: وله أسلم من في السماوات والأرض طائعين وكارهين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث إنّ الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل...
{طَوْعاً} بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه... {وَكَرْهًا} بالسَّيف، أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون، والإشفاء على الموت {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ}...
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين الله، فلهذا قال بعده {أفغير دين الله يبغون} وفي الآية مسائل:... المسألة الثانية: الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه،... في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل: أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون؟...
فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين دينا غير دين الله، ومعبودا سوى الله سبحانه، ثم بين أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء، فقال: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: الإسلام، هو الاستسلام والانقياد والخضوع. إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السماوات والأرض لله وجوه: الأول: وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه، فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع، ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله {وله أسلم} يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السماوات والأرض لا لغيره، فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلا أو نفسا أو روحا أو جسما أو جوهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض} [الرعد: 15] وقوله {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44]...
الوجه الثاني: في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده، وإما أن ينزلوا عليه طوعا أو كرها، فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين، وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك، وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرها لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين، وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرها، لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره... يقال: طاعه يطوعه طوعا إذا انقاد له وخضع، وإذا مضى لأمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاوعه، قال ابن السكيت: يقال طاع له وأطاع، فانتصب طوعا وكرها على أنه مصدر وقع موقع الحال،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما بين سبحانه أن دينه واحد وأن رسله متفقون فيه، قال في منكري نبوة محمد: {أفغير دين الله يبغون}: أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون غير دين الله الذي هو الإسلام
{وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها}: والحال أن جميع من في السموات والأرض من العقلاء قد خضعوا له تعالى وانقادوا لأمره طائعين وكارهين. قد اختلفوا في بيان الإسلام الطوع والكره، فذهب يعضهم إلى أن الإسلام هنا متعلق بالتكوين والإيجاد والإعدام لا بالتكليف. أي إنه تعالى هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون المنقادون لتصرفه. وقال الرازي: إن هذا هو الأصح عنده ولم يذكر فيه معنى الطوع والكره وكأنه يعني أن ما يحل بالعقلاء من تصاريف الأقدار منه ما يصحبه اختيارهم عن رضى واغتباط فيكونون خاضعين له طوعا، ومنه ما ليس كذلك فيحل به وهم له كارهون {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44].
ويقابل هذا: أن الإسلام متعلق بالتكليف والدين فقط. وصاحب هذا القول يفسر إسلام الكره بما يكون عند الشدائد الملجئة إليه، كما قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآيتنا إلا كل ختار كفور} [لقمان: 32] وقال: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65]. ومنهم من قال إن إسلام الكره ما يكون عند رؤية الآيات كما وقع لقوم موسى، وقيل ما يكون عند الخوف من السيف، وقيل ما يكون عند الموت إذ يشرف الكافر على الآخرة ولكنه إسلام لا ينفعه.
وهناك مذهب ثالث وهو أن هذا الإسلام أعم من إسلام التكليف وإسلام التكوين فهو يشمل ما يكون بالفطرة وما يكون بالاختيار. وفي هذا المذهب وجوه، قال الحسن: الطوع لأهل السموات خاصة وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضه بالكره. وقيل إن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعا بدليل قوله {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها. وقيل المسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك. وأما المكابرون فهم ينقادون لله كرها على كل حال في التكليف والتكوين. وهذه وجوه ضعيفة كما ترى.
وقال الأستاذ الإمام: إن الذين أسلموا طوعا هم الذين لهم اختيار في الإسلام وأما الذين أسلموا كرها فهم الذين فطروا على معرفة الله تعالى كالأنبياء والملائكة. وإن كان لفظ الكره يطلق في الغالب على ما يخالف الاختيار ويقهره، فإن الله تعالى قد استعمله في غير ذلك، كقوله بعد ذكر خلق السماء في الكلام على التكوين {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} [فصلت: 11] فأطلق الكره وأراد به لازمه وهو عدم الاختيار.
أقول: وهذا سهو فيما يظهر لي وكنت في أيام حياته أراجعه في مثله قبل الكتابة والطبع، وبيانه أن تتمة الآية {قالتا أتينا طائعين}. فالظاهر أن ما يكون منهم من الانقياد لله تعالى بمقتضى الفطرة من قسم إسلام الطوع. وأما ما يقع منهم من التكليف بالاختيار فمنه ما فعل طوعا وما يفعل كرها. وكذا ما يقع بهم منه ما يكونون كارهين له، ومنه ما يكونون راضين به. فإذا كان مرادا في الآية فالطوع فيه بمعنى الرضى. وصفوه الكلام أن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص في الخضوع له. وأن الأنبياء كلهم كانوا على ذلك وقد أخذ ميثاقهم بذلك على أممهم ولكنهم نقضوه، فجاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه، فهم بذلك قد ابتغوا غير دينه الذي زعموه. {وإليه يرجعون} فيجزيهم بما كانوا يعلمون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإليه يرجعون).. فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبر الجليل.. ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه، وفي نظام حياته، وفي منهج مجتمعه، ليتناسق مع النظام الكوني كله. فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه، في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون، وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني.. والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره، وفي واقعه وارتباطاته، وفي عمله ونشاطه، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها. وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق؛ أو لا يؤدي -على كل حال- وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له. وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه، يملك معرفة أسرارها، وتسخيرها، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة، ويعفيه من الخوف والقلق والتناحر.. الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون، ولكن ليطبخ بها ويستدفئ ويستضيء! والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي. فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه، فيشقى ويتمزق، ويحتار ويقلق. ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب -على الرغم من جميع الانتصارات العلمية، وجميع التسهيلات الحضارية المادية! إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير. خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها.. حقيقة الإيمان.. وخواء حياتها من المنهج الإلهي. هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه. إنها تعاني من الهجير المحرف الذي تعيش فيه بعيدا عن ذلك الظل الوارف الندي. ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيدا عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق! ومن ثم تجد الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب؛ وتحس الخواء والجوع والحرمان؛ وتهرب من واقعها هذا بالأفيون والحشيش والمسكرات؛ وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء، والشذوذ في الحركة واللبس والطعام! وذلك على الرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسورة والفراغ الكثير... لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتزايد كلما تزايد الرخاء المادي والإنتاج الحضاري واليسر في وسائل الحياة ومرافقها. إن هذا الخواء المرير ليطارد البشرية كالشبح المخيف. يطاردها فتهرب منه. ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير!...
إياك أن تفهم أن هناك إسلاما بالقهر والإكراه. وبعض العلماء قد فاتهم ذلك، وهم يعطون لخصوم الإسلام حجة الإسلام حجة فيقولون:"إن دينكم انتشر بإكراه السيف" ولذلك نقول لهم: لا، إن أحدا لم يسلم كرها أبدا؛ لأن السيف إنما رفع لشيء واحد هو حماية حرية الاختيار. إن السيف قد رُفع ليمنع الإكراه، وليمنع تسلط بعض الناس بقوتهم ليجبروا الناس على عقائدهم فقال لهم السيف: "قفوا عند حدكم، ودعوا الناس أحرارا في اختيار ما يعتقدون"، ودليل ذلك أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد فيها غير المسلمين، ولو كان الأمر فتحا بالسيف لما وجدنا ديانات أخرى. غير الإسلام، نجدهم أيضا يتشدقون بذلك ويزيدون "إنكم تفرضون جزية". ونقول لهم: أنتم تردون على أنفسكم، نحن لم نفرض جزية على المؤمن ولكن الكافر تركناه على كفره، والجزية يدفعها الكافر ليدافع عنه المؤمنون لو أصاب البلاد مكروه. إذن فكيف نفهم قوله الحق بأن هناك من أسلم كرها؟ نحن نفهمها كالآتي: إن الإنسان هو الذي انقسمت عنده المسائل، وفيه أمور تدخل في فعله ومراداته، وفيه أمور تحدث قهرا عنه، وتحدث له بلا إرادة ولا اختيار، فالإنسان يكون مختارا في الفعل الذي يقع منه، أما الفعل الذي يقع عليه أو فيه فلا دخل له فيه بالاختيار؛ إن أحدا منا لا يختار يوم ميلاده، أو يوم وفاته أو يوم إصابته بالمرض، والإنسان الذكي هو الذي يعرف ذلك ونقول للإنسان الذي لا يعرف أو يتجاهل ذلك: أيها الإنسان دعك من الغباء؛ إن هناك زوايا من حياتك أنت مجبر فيها على أن تكون مسلما لله كرها إنك تسلم لله دون إرادتك في كثير من الأمور التي تقع عليك، ولا تستطيع لها دفعا، فلماذا تقف في الإسلام عند زاوية الاختيار؟ إن المسخرات كلها مسلمة لله، والإنسان فيما يقع فيه أو عليه من أمور لا يستطيع دفعها. هو تسليم لله كرها من الإنسان، وهكذا نرى أن قيادة التسخير فيما ليس لك دخل فيه أيها الإنسان هي مسلمة لله، مثلك في ذلك مثل كل الكائنات، أفلا يجب عليك أن تسلم بكل زوايا حياتك؟ فلو كان هناك إنسان كافر بكل ما فيه من أبعاض فعلى هذا الكافر ألا يسلم بأي شيء من جوارحه؛ هل يستطيع أن يمنعها من أن تؤدي عملها؟ ولنر ما سيحدث له لا بد أن يتوقف عن التنفس؛ لأن التنفس يحدث رغما عنه، لا بد أن يوقف دقات قلبه؛ لأنها تدق رغما عنه. وما دام هناك من يستمرئ الكفر فليحاول أن يجعل كل ما فيه كافرا، ولن يستطيع؛ بل سيجد أنه يحب أمورا ولا تأتي له، ويكره أمورا وتنزل به، ولم يفلت أحد من الإسلام لله، لأن الله قد اختار لكل إنسان يوم الميلاد ويوم الموت، واختار الله للإنسان أن تجري الأحداث فوقه ولا يستطيع دفعها، ويصبح خاضعا رغم أنفه، لذلك قال الحق: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}...
كان يجب أن يأخذ الكافر هذه النقطة ويقول للكفر: "لا"، ويتجه إلى الإيمان؛ لأن المؤمن يأخذ هذه النقطة ويقول: أنا أريد أن أنسجم مع الكون كله حتى لا تطغى ملكة على ملكة، ولا تطغى إرادة على إرادة أخرى، وهذه رحمة من الله بالخلق...