غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ} (83)

81

ثم وبخ من خرج من دين الله إلى غيره بإدخال همزة الاستفهام على الفاء العاطفة فقال : { أفغير دين الله يبغون } ويحتمل أن يراد أيتولون فغير دين الله يبغون { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون } من قرأ بتاء الخطاب فيهما فلأن ما قبله خطاب في " أقررتم " و

" أخذتم " أو للالتفات بعد قوله { أولئك هم الفاسقون } ومن قرأ بياء الغيبة فلرجوع الضمير في الأول إلى الفاسقين ، وفي الثاني إلى جميع المكلفين . والأصل أفتبتغون غير دين الله ؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الحوادث إلا أنه قدم المفعول لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو فائدة الهمزة ههنا متوجه إلى الدين الباطل . وعن ابن عباس أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم ، فكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال صلى الله عليه وسلم : كل الفريقين بريء من دين إبراهيم . فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت . وعلى هذا تكون الآية كالمنقطعة عما قبلها ، ولكن الاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها ، فالوجه أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم ولم يكن لكفرهم سبب إلا مجرد البغي والعناد ، كانوا طالبين ديناً غير دين الله ، فاستنكر أن يفعلوا ذلك أو قرر أنهم يفعلون . ثم بيّن أن الإعراض عن دين الله خارج عن قضية العقل ، وكيف لا وقد أخلص له تعالى الانقياد وخصص له الخضوع كل من سواه ، لأن ما عداه كل ممكن وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه ، فهو ذليل بين يدي قدرته ، خاضع لجلال قدرة في طرفي وجوده وعدمه عقلاً كان أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلاً أو فعلاً . ونظير الآية { ولله يسجد من في السماوات والأرض }[ الرعد :15 ] فلا سبيل لأحد إلى الامتناع عن مراده { طوعاً وكرهاً } وهما مصدران وقعا موقع الحال لأنهما من جنس الفعل أي طائعين وكارهين كقولك : أتاني راكضاً أي راكضا . ولو قلت أتاني كلاماً أي متكلماً لم يجز لأن الكلام ليس من جنس الإتيان . فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين وكرهاً في غيره من الآلام والمكاره التي تحالف طباعهم ، لأنهم لا يمكنهم دفع قضائه وقدره . وأما الكافرون فينقادون في الدين كرهاً أي خوفاً من السيف أو عند الموت أو نزول العذاب . وعن الحسن : الطوع لأهل السماوات ، والكره لأهل الأرض . أقول : وذلك لأن السفلي ينجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره . وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعاً ، ومن شاهد الجلال أسلم كرهاً . فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي { وإليه ترجعون } أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهراً وباطناً ، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره . ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه .