الجمهور يجعلون الهمزة مقدَّمةً على الفاء ، للزومها الصدر ، والزمخشري يقرها على حالها ، ويُقدِّر محذوفاً قبلها ، وهنا جوَّز وجهين :
أحدهما : أن تكون الفاء عاطفةً جملة على جملة ، والمعنى : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما .
والثاني : أن تعطف على محذوف ، تقديره أيتولون ، فغير دين الله يبغون ؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، وهو استفهام استنكار ، وقدم المفعول - الذي هو " غير " - على فعله ؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - مُتَوَجِّه إلى المعبود الباطل ، هذا كلام الزمخشريِّ .
قال أبو حيان : " ولا تحقيق فيه ؛ لأن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - لا يتوجه إلى الذوات ، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء ، الذي متعلقه غير دين الله ، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع ، ولشبه " يبغون " بالفاصلة ، فأخَّرَ الفعلُ " .
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم{[5699]} " يَبْغُونَ " من تحت - نسقاً على قوله : { هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ آل عمران : 82 ] والباقون بتاء الخطاب ، التفاتاً لقوله : { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] ولقوله : { ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ } . [ آل عمران : 81 ] .
وأيضاً فلا يبعد أن يُقال للمسلم والكافر ، ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له مَنْ في السماوات والأرض وأن مَرْجعكم إليه ؟ ونظيره قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [ آل عمران : 101 ] .
قال ابن الخطيب : ذكر المفسّرون في سبب النزولِ أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادَّعَى كلّ واحدٍ من الفريقين أنه على دين إبراهيم ، فقال صلى الله عليه وسلم " كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ إبْرَاهِيمَ ، فَغَضِبُوا وقالوا : والله لا نَرْضَى بقضائِك ، ولا نأخذ بِدِينِكَ " ، فنزل قوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ } .
قال ابن الخطيب : ويبعد عندي حَمْلُ هذه الآيةِ على هذا السبب ؛ لأن على هذا التقدير - الآية منقطعة عما قبلها ، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلُّقَها بما قبلها ، وإنما الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كُتُبِهِم ، وهم كانوا عارفين بذلك ، وعالمين بصِدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، فلم يبق كفرهم إلا مجردَ عنادٍ وحَسَدٍ وعداوةٍ ، فصاروا كإبليس حين دعاه الحسدُ إلى الكُفر ، فأعلمهم - تعالى - أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين ديناً غير دين اللهِ - تعالى - ثم بيَّن لهم أن التمرُّدَ على الله ، والإعراضَ عن حكمه مما لا يليق بالعقل ، فقال : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } .
قوله : " وله أسلم من في السماوات " جملةٌ حاليةٌ ، أي : كيف يبغون غير دينه ، والحال هذه ، وفي قوله : " طوعاً وكرهاً " وجهان :
أحدهما : أنهما مصدران في موضع الحال ، والتقدير : طائعين وكارهين .
الثاني : أنهما مصدران على غير المصدر ، قال أبو البقاء : " لأن " أسْلَمَ " بمعنى انقاد ، وأطاع " وتابعه أبو حيان على هذا .
وفيه نظرٌ ؛ من حيث إن هذا ماشٍ في " طَوْعاً " لموافقته معنى الفعل قبله ، وأما " كَرْهاً " ، كيف يقال فيه ذلك ؟ والقول بأنه يُغتفر في التوالي ما لا يُغْتَفَر في الأوائل ، غير نافع هنا .
ويقال يطاع يطوع ، وأطاع يُطيع بمعنى ، قاله ابن السِّكيتِ ، وقول : طاعه يطوعه : انقاد له ، وأطاعه ، أي : رضي لأمره ، وطاوعه ، أي : وافقه .
قرأ الأعمش : " وَكُرْهاً " - بالضم{[5700]} - وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء .
قال الحسنُ : أسلم من في السماوات طوعاً ، وأسلم من في الأرض بعضهم طَوْعاً ، وبعضهم خوفاً من السيف والسَّبْي{[5701]} .
وقال مجاهد{[5702]} : " طوعاً " المؤمن ، و " كرْهاً " ظل الكافر ، بدليل قوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ الرعد : 15 ] .
وقيل هذا يوم الميثاق ، حين قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } [ الأعراف : 172 ] فقال بعضهم طوعاً ، وبعضهم كرهاً .
قال قتادة{[5703]} : المؤمن أسلم طوعاً فنفعه ، والكافر أسلم كرهاً في وقت اليأس ، فلم ينفعه ، قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .
قال الشعبي : وهو استعاذتهم به عند اضطرارهم ، كقوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ العنكبوت : 65 ] .
قال الكلبيُّ : " طَوْعاً " الذي وُلِد في الإسلام " وَكَرْهاً " الذين أجْبِروا على الإسلام .
قال ابن الخطيب : كل أحد منقاد - طوعاً أو كرهاً - فالمسلمون منقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدّينِ ، ومنقادون له فيما يخالف طِباعَهم من الفقر والمرض والموت وأشباهه . وأما الكافرون ، فهم منقادون لله كرهاً على كل حال ؛ لأنهم لا ينقادون لله فيما يتعلق بالدِّين ، وفي غير ذلك مستسلمون له - سبحانه - كرهاً ، لا يمكنهم دفع قضائه وقدره .
وقيل : كل الخلق منقادون للإلهية طوعاً ، بدليل قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً .
قوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً ، فلا محل لها ، وإنما سيقت للإخبار بذلك ؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم ، والوعيد الشديد . ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ } فتكون حالاً - أيضاً - ويكون المعنى : أنه نَعَى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السماوات والأرض - طائعين ومكرهين - ومن مرجعهم إليه .
قرأ حفص - عن عاصم - " يُرْجَعُونَ " بياء الغيبة - ويحتمل ذلك وجوهاً :
أحدها : أن يعود الضمير على { مَنْ أَسْلَمَ } .
الثاني : أن يعود على من عاد عليه الضمير في " يَبْغُونَ " في قراءة من قرأ بالغيبة ، ولا التفات في هذين .
والثالث : أن يعود على من عاد عليه الضمير في " تَبْغُونَ " - في قراءة الخطاب - فيكون التفاتاً حينئذ . وقرأ الباقون - " تبغون " - بالخطاب - وهو واضح ، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتاً منه .
ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله : { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.