الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ} (83)

قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ } : قد تقدم أن الجمهور يجعلون الهمزةَ مقدمةً على الفاء للزومِها الصدرَ ، والزمخشري يُقِرُّها على حالِها ويقدِّرُ محذوفاً قبلها ، وهنا جَوَّز وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ الفاءُ عاطفةً جملةً على جملة ، والمعنى : فأولئك هم الفاسقون فغيَر دين الله يبغون ، ثم توسَّطت الهمزةُ بينهما . والثاني : أن يُعْطَف على محذوفٍ تقديرُهُ : أيتولَّون فغيرَ دين الله يبغون ، وقَدَّم المفعولَ الذي هو " غير " على فِعْلِهِ لأنه أهمُّ من حيثُ إنَّ الإِنكارَ الذي هو معنى الهمزة متوجهٌ إلى المعبودِ بالباطل ، هذا كلامُ الزمخشري . قال الشيخ : " ولا تحقيقَ فيه لأنَّ الإِنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجَّه إلى الذوات ، إنما يتوجَّه إلى الأفعال التي تتعلَّق بالذوات ، فالذي أُنْكر إما هو الابتغاء الذى متعلَّقه غيرُ دين الله ، وإنما جاء تقديمُ المفعول من باب الاتساع ، ولشبهِ يبغون بالفاصلة بآخر الفعل " قلت : وأين المعنى من المعنى ؟

وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم : " يَبْغون " بالياءِ من تحت نَسَقاً على قوله : { هم الفاسقون } والباقون بياءِ الخطاب التفاتاً .

قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ } جملةٌ حالية أي : كيف يَبْغُون غيرَ دينه والحالُ هذه ؟

قوله : { طَوْعاً وَكَرْهاً } فيهما وجهان أحدُهما : أنهما مصدران في موضع الحال والتقدير : طائعين وكارهين . والثاني : أنهما مصدران على غير الصدر ، قال أبو البقاء : " لأنَّ أسلم بمعنى انقاد وأطاع " ، وتابع الشيخ على هذا ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ هذا ماشٍ في " طوعاً " لموافقته لمعنى الفعل قبله ، وأمَّا " كَرْهاً " فكيف يقال فيه ذلك ، والقول بأنه يُغتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائل غيرُ نافعٍ هنا . ويقال : طاع يَطُوع ، وأطاع يُطيع بمعنى . وقيل : طاعة يَطُوعه انقادَ له ، وأطاعه أي : رَضِي لأمره ، وطاوَعَهُ أي : وافقه .

وقرأ الأعمش : " كُرْهاً " بالضم ، وسيأتي أنها قراءة للأَخوين في سورة النساء ، وللكوفيين وابن ذكوان في الأحقاف ، وهناك تكلَّمْنا عليها ، وتقدم لنا أيضاً ذِكْرُ هذه المادة في البقرة .

قوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً فلا محلَّ لها ، وإنما سِيقت للإِخبار بذلك لتضمُّنها معنى التهديد العظيم والوعيدِ الشديد ، ويجوزُ أن تكونَ معطوفةٌ على الجملةِ من قولِهِ : { وَلَهُ أَسْلَمَ } فتكونُ حالاً أيضاً ، ويكونُ المعنى أنه نَعَى عليهم ابتغاءَ غير دين مَنْ أسلم له جميعُ مَنْ في السماوات والأرض طائِعين ومُكْرَهين ومَنْ مَرجِعُهم إليه .

وقرأ حفص عن عاصم : " يُرْجَعُون " بياء الغيبة ويَحْتَمِل ذلك وجوهاً :

أحدها : أَنْ يعودَ الضميرُ على مَنْ أسلم وهو واضح .

الثاني : أن يعود على مَنْ عاد عليه ضميرُ " يَبْغَون " في قراءة مَنْ قرأه بالغيبة ، وهو أيضاً واضحٌ ، ولا التفاتَ في هذين الوجهين .

والثالث : أن يعودَ على مَنْ عاد إليه الضمير في " تَبْغَون " في قراءة الخطاب فيكون التفاتاً حينئذٍ . وقرأ الباقون : " تَبْغُون " بالخطاب ، فَمَن قرأ " تبغون " بالخطاب فهو واضح ، ومَنْ قرأه بالغيبة فيكون هذا التفاتاً منه ، ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله : { مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } .