الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ} (83)

قوله تعالى : " أفغير دين الله يبغون " قال الكلبي : إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أينا أحق بدين إبراهيم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلا الفريقين بريء من دينه ) . فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك ، فنزل " أفغير دين الله يبغون " يعني يطلبون . ونصبت " غير " بيبغون ، أي يبغون غير دين الله . وقرأ أبو عمرو وحده " يبغون " بالياء على الخبر " وإليه ترجعون " بالتاء على المخاطبة . قال : لأن الأول خاص والثاني عام ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى . وقرأ حفص وغيره " يبغون ، ويرجعون " بالياء فيهما ؛ لقوله : " فأولئك هم الفاسقون " . وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب ، لقوله " لما آتيتكم من كتاب وحكمة " . والله أعلم .

قوله تعالى : " وله أسلم " أي استسلم وانقاد وخضع وذل ، وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم ؛ لأنه مجبول عل ما لا يقدر أن يخرج عنه . قال قتادة : أسلم المؤمن طوعا والكافر عند موته كرها ولا ينفعه ذلك ؛ لقوله : " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " {[3192]} [ المؤمن : 85 ] . قال مجاهد : إسلام الكافر كرها بسجوده لغير الله وسجود ظله لله ، " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " {[3193]} [ النحل : 48 ] " ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال " {[3194]} [ الرعد : 15 ] . وقيل : المعنى أن الله خلق الخلق على ما أراد منهم ، فمنهم الحسن والقبيح والطويل والقصير والصحيح والمريض وكلهم منقادون اضطرارا ، فالصحيح منقاد طائع محب لذلك ، والمريض منقاد خاضع وإن كان كارها . والطوع : الانقياد والارتباع [ الاتباع ] بسهولة . والكره : ما كان بمشقة وإباء من النفس . و " طوعا وكرها " مصدران في موضع الحال ، أي طائعين ومكرهين . وروى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : " وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها " قال : ( الملائكة أطاعوه في السماء والأنصار وعبد القيس في الأرض ) . وقال عليه السلام : ( لا تسبوا أصحابي فإن أصحابي أسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف السيف ) . وقال عكرمة : " طوعا " من أسلم من غير محاجة " وكرها " من اضطرته الحجة إلى التوحيد . يدل عليه قوله عز وجل : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " {[3195]}

[ الزخرف : 87 ] " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله " {[3196]} [ العنكبوت : 63 ] . قال الحسن : هو عموم معناه الخصوص . وعنه : " أسلم من في السماوات " وتم الكلام . ثم قال : " والأرض طوعا وكرها " . قال : والكاره المنافق لا ينفعه عمله . و " طوعا وكرها " مصدران في موضع الحال . عن مجاهد عن ابن عباس قال : إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا{[3197]} فليقرأ في أذنها هذه الآية : " أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها " إلى آخر الآية .


[3192]:- راجع جـ15 ص 336.
[3193]:- راجع جـ10 ص111.
[3194]:- راجع جـ9 ص 301.
[3195]:- راجع جـ16 ص 123.
[3196]:- راجع جـ 13 ص 361.
[3197]:- شمست الدابة: شردت وجمحت ومنعت ظهرها.