6- وكما رأيت نفسك في المنام سيداً مطاعاً ، ذا شرف وسلطان ، يصطفيك ربك ويختارك ويعلمك تفسير الرؤى ، وبيان ما تؤول إليه ، فيعظم قدرك وذكرك ، ويتم الله نعمته عليك ، وعلى آل يعقوب ، بالنبوة والرسالة كما أتمها على أبويك من قبل أبيك يعقوب ، وهما إبراهيم وإسحاق ، إن ربك كثير الحكمة فلا يخطئ ، كثير العلم فيصطفي من عباده من يعلم أنه أهل للاصطفاء .
{ وكذلك يجتبيك ربك } ، يصطفيك ربك يقوله يعقوب ليوسف عليهما السلام أي : كما رفع منزلتك بهذه الرؤيا ، فكذلك يصطفيك ربك ، { ويعلمك من تأويل الأحاديث } ، يريد تعبير الرؤيا ، سمي تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في منامه ، والتأويل ما يؤول إلى عاقبة الأمر ، { ويتم نعمته عليك } ، يعني : بالنبوة ، { وعلى آل يعقوب } ، أي : على أولاده فإن أولاده كلهم كانوا أنبياء ، { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } ، فجعلهما نبيين ، { إن ربك عليم حكيم } . وقيل : المراد من إتمام النعمة على إبراهيم الخلة . وقيل : إنجاؤه من النار ، وعلى إسحاق إنجاؤه من الذبح . وقيل : بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان بين رؤيا يوسف هذه وبين تحقيقها بمصير أبويه وإخوته إليه أربعون سنة ، وهو قول أكثر أهل التفسير . وقال الحسن البصري : كان بينهما ثمانون سنة . فلما بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا : ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه فبغوه وحسدوه .
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ْ } أي : يصطفيك ويختارك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة ، . { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ْ } أي : من تعبير الرؤيا ، وبيان ما تئول إليه الأحاديث الصادقة ، كالكتب السماوية ونحوها ، { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ْ } في الدنيا والآخرة ، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، { كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ْ } حيث أنعم الله عليهما ، بنعم عظيمة واسعة ، دينية ، ودنيوية .
{ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ } أي : علمه محيط بالأشياء ، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره ، فيعطي كلا ما تقتضيه حكمته وحمده ، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها .
ثم حكى - سبحانه - ما توقعه يعقوب لابنه يوسف من خير وبركة فقال :
{ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
والكاف في قوله { وكذلك } حرف تشبيه بمعنى مثل ، وهى داخله على كلام محذوف .
وقوله { يَجْتَبِيكَ } من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار ، مأخوذ من جبيت الشئ إذا اخترته لما فيه من النفع والخير .
و { تَأْوِيلِ الأحاديث } معناه تفسيرها صحيحا ، إذا التأويل مأخوذ من الأَوْل بمعنى الرجوع ، وهو رد الشئ إلى الغاية المرادة منه .
والأحاديث جمع تكسير مفرده حديث ، وسميت الرؤى أحاديث باعتبار حكايتها والتحدث بها .
والمعنى : وكما اجتباك ربك واختارك لهذه الرؤيا الحسنة ، فإنه - سبحانه - يجتبيك ويختارك لأمور عظام في مستقبل الأيام ، حيث يهبك من صدق الحسَّ ، ونفاذ البصيرة ، ما يجعلك تدرك الأحاديث إدراكا سليما ، وتعبر الرؤى تعبيرا صحيحا صادقاً .
" ويتم نعمته عليك " بالنبوة والرسالة والملك والرياسة " وعلى آل يعقوب " وهم إخوته وذريتهم ، بأن يسبغ عليهم الكثير من نعمه .
{ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ } أى : من قبل هذه الرؤيا أو من قبل هذا الوقت .
وقوله " إبراهيم وإسحاق " بيان لأبويه .
أى : يتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل ، وهما إبراهيم وإسحاق بأن وهبهما - سبحانه - النبوة والرسالة .
وعبر عنهما بأنهما أبوان ليوسف ، مع أن إبراهيم جد أبيه ، وإسحاق جده ، للإِشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام - وللمبالغة في إدخال السرور على قلبه ، ولأن هذا الاستعمال مألوف في لغة العرب ، فقد كان أهل مكة يقولون للنبى - صلى الله عليه وسلم - يا ابن عبد المطلب ، وأثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنا النبى لا كذب - أنا ابن عبد المطلب " وجملة { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } مستأنفة لتأكيد ما سبقها من كلام .
أى : إن ربك عليم بمن يصطفيه لحمل رسالته ، وبمن هو أهل لنعمه وكرامته ، حكيم في صنعه وتصرفاته .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد نوهت بشأن القرآن الكريم ، وساقت بأسلوب حكيم ما قاله يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - بعد أن قص ما رآه في المنام .
ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وقد أحس من رؤيا ابنه يوسف أن سيكون له شأن ، يتجه خاطره إلى أن هذا الشأن في وادي الدين والصلاح والمعرفة ؛ بحكم جو النبوة الذي يعيش فيه ، وما يعلمه من أن جده إبراهيم مبارك من الله هو وأهل بيته المؤمنون . فتوقع أن يكون يوسف هو الذي يختار من أبنائه من نسل إبراهيم لتحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة المباركة في بيت إبراهيم . فقال له :
( وكذلك يجتبيك ربك ، ويعلمك من تأويل الأحاديث ، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق ، إن ربك عليم حكيم ) .
واتجاه فكر يعقوب إلى أن رؤيا يوسف تشير إلى اختيار الله له ، وإتمام نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق [ والجد يقال له أب ] . . هذا طبيعي . ولكن الذي يستوقف النظر قوله :
( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) . .
والتأويل هو معرفة المآل . فما الأحاديث ؟ . أقصد يعقوب أن الله سيختار يوسف ويعلمه ويهبه من صدق الحس ونفاذ البصيرة ما يدرك به من الأحاديث مآلها الذي تنتهي إليه ، منذ أوائلها . وهو إلهام من الله لذوي البصائر المدركة النافذة ، وجاء التعقيب :
مناسبا لهذا في جو الحكمة والتعليم ؟ أم قصد بالأحاديث الرؤى والأحلام كما وقع بالفعل في حياة يوسف فيما بعد ؟
كلاهما جائز ، وكلاهما يتمشى مع الجو المحيط بيوسف ويعقوب .
وبهذه المناسبة نذكر كلمة عن الرؤى والأحلام وهي موضوع هذه القصة وهذه السورة .
إننا ملزمون بالأعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد . ملزمون بهذا أولا من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف ، ورؤيا صاحبيه في السجن ، ورؤيا الملك في مصر . وثانيا من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق رؤى تنبؤية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده . . لأنه موجود بالفعل ! . .
والسبب الأول يكفي . . ولكننا ذكرنا السبب الثاني لأنه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها إلا بتعنت . . فما هي طبيعة الرؤيا ؟
تقول مدرسة التحليل النفسي : إنها صور من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي .
وهذا يمثل جانبا من الأحلام . ولكنه لا يمثلها كلها . [ وفرويد ] ذاته - على كل تحكمه غير العلمي وتمحله في نظريته - يقرر أن هناك أحلاما تنبؤية .
فما طبيعة هذه الأحلام التنبؤية ؟
وقبل كل شيء نقرر أن معرفة طبيعتها أو عدم معرفته لا علاقة له بإثبات وجودها وصدق بعضها . إنما نحن نحاول فقط أن ندرك بعض خصائص هذا المخلوق البشري العجيب ، وبعض سنن الله في هذا الوجود .
ونحن نتصور طبيعة هذه الرؤى على هذا النحو . . إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل ، أو الحاضر المحجوب . وأن ما نسميه ماضيا أو مستقبلا إنما يحجبه عنا عامل الزمان ، كما يحجب الحاضر البعيد عنا عامل المكان . وأن حاسة ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض الأحيان ، فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صورة مبهمة ، ليست علما ولكنها استشفاف ، كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس ، وفي الرؤى لبعضهم ، فيتغلب على حاجز المكان أو حاجز الزمان ، أو هما معا في بعض الأحيان . وإن كنا في نفس الوقت لا نعلم شيئا عن حقيقة الزمان . كما أن حقيقة المكان ذاتها - وهي ما يسمى بالمادة - ليست معلومة لنا على وجه التحقيق : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) !
على أية حال لقد رأى يوسف رؤياه هذه ، وسنرى فيما بعد ما يكون تأويل الرؤيا .
{ وكذلك } أي وكما اجتباك لمثل لهذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس . { يجتبيك ربك } للنبوة والملك أو لأمور عظام ، والاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك . { ويعلّمك } كلام مبتدأ خارج عن التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك . { من تأويل الأحاديث } من تعبير الرؤيا لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة ، وأحاديث النفس أو الشيطان إن كانت كاذبة . أو من تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن الأنبياء وكلمات الحكماء ، وهو اسم جمع للحديث كأباطيل اسم جمع للباطل . { ويُتمّ نعمته عليك } بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة . { وعلى آل يعقوب } يريد به سائر بنيه ، ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب أو نسله . { كما أتمّها على أبويك } بالرسالة وقيل على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار وعلى إسحاق بإنقاذه من الذبح وفدائه بذبح عظيم . { من قبل } أي من قبلك أو من قبل هذا الوقت . إ{ براهيم وإسحاق } عطف بيان لأبويك . { إن ربك عليم } بمن يستحق الاجتباء . { حكيم } يفعل الأشياء على ما ينبغي .