السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (6)

{ وكذلك } ، أي : وكما اجتباك ربك للاطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكمال نفس { يجتبيك } ، أي : يختارك ويصطفيك { ربك } بالدرجات العالية واجتباء الله تخصيصه بفيض إلهي يحصل منه أنواع الكرامات بلا سعي من العبد ، وذلك مخصوص بالأنبياء وبعض من يقاربهم من الصدّيقين والشهداء والصالحين وقوله : { ويعلمك } كلام مستأنف خارج عن التشبيه والتقدير وهو يعلمك { من } ، أي : بعض { تأويل الأحاديث } من تأويل الرؤيا وغيرها من كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدّمين ، وكان يوسف عليه السلام في تعبير الرؤيا وغيرها غاية ، والتأويل ما تؤل إليه عاقبة الأمر { ويتم نعمته عليك } بالنبوّة . قال ابن عباس : لأنّ منصب النبوّة ، أي : ومع الرسالة أعلى من جميع المناصب ، وكل الخلق دون درجة الأنبياء ، فهذا من تمام النعمة عليهم ؛ لأنّ جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة والنبوّة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوّة والرسالة ، وقيل : يجتبيك بالنبوّة ويتم نعمته عليك بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة ، أمّا سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد ، وأمّا سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى { وعلى آل يعقوب } ، أي : أولاده وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب ، وتمام النعمة هو النبوّة والرسالة كما مرّ فلزم حصولها لآل يعقوب وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال : إني رأيت أحد عشر كوكباً وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضئ بعلمهم ودينهم أهل الأرض ؛ لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدي ، وذلك يقتضي أن تكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً .

فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام ؟ أجيب : بأنّ ذلك وقع منهم قبل النبوّة ، والعصمة من المعاصي إنما تعتبر بعد النبوّة لا قبلها على خلاف فيه . { كما أتمها على أبويك } بالنبوّة والرسالة ، وقيل : إتمام النعمة على إبراهيم عليه السلام خلاصه من النار واتخاذه خليلاً ، وعلى إسحاق خلاصه من الذبح وفداؤه بذبح عظيم على قول أن إسحاق هو الذبيح . { من قبل } ، أي : من قبل هذا الزمان وقوله : { إبراهيم وإسحاق } عطف بيان لأبويك ثم إن يعقوب عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله : { إن ربك عليم } ، أي : بليغ العلم { حكيم } ، أي : بليغ الحكمة وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها .