اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (6)

قوله { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } الكاف في موضع نصب ، أو رفع .

فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر ، وقد تقدم أنه رأي سيبويه ، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف ، والمعنى : مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك .

والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر ، يعني : الأمر كذلك ، وقد تقدم نظيره .

قوله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه ، والتقدير : وهو يعلمك ، والأحاديث : جمع تكسير ، فقيل : لواحد ملفوظٍ به ، وهو " حَدِيث " ولكنَّه شذَّ جمعه على : أحاديث ، وله أخوات في الشُّذُوذ ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع ، وأعَارِيض ، في " بَاطل وقَطيع وعَروض " .

[ وزعم ] أبو زيد : " أن لهَا واحداً مقدراً ، وهو " أحْدُوثة " ونحوه ، وليس باسم جمع ؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير ، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه ، نحو : " شَماطِيط " ، و { أَبَابِيلَ } [ الفيل : 3 ] ففي أحاديث أولى " .

ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله : " وهي اسمُ جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة " بما ذكرنا ، ولكن قوله : " ليس بجمع أحدُوثة " صحيح ؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه ، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله : " اسم جمع " .

فصل

قال الزجاج : الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء : إذا أخلصته لنفسِك ، ومنه : جَبُبت الماء في الحوض ، والمعنى : كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز ، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك ، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة .

وقيل : بإعلاء الدَّرجة ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) : يريد تعبير الرُّؤيا ، وسُمِّي تأويلاً ؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه ، والتأويل : ما يئول إليه عاقبة الأمْر ، كان عليه الصلاة والسلام غاية في علم التَّعبير .

وقيل : في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى ، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام .

وقيل : الأحاديث : جمع " حَدِيث " ، والحديث هو الحَادثُ ، وتأويلُها : مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى ، وتكوينه ، وحكمته ، والمراد من تأويل الأحاديث : كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته ، وجلاله .

قوله : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } يجوز أن يتعلق " عَليْكَ " ب " يُتِمُّ " وأن يتعلق ب " نِعْمتَهُ " ، وكرَّر " عَلَى في قوله : " وعَلى آلِ " لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين .

وقوله { مِن قَبْلُ } أي : من قبلك : واعلم : أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة ، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة ، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا : بسعادات الدنيا والآخرة .

أما سعادات الدنيا ؛ فالإكثار من الولدِ ، والخدمِ ، والأتباع ، والتَّوسُّع في المال والجاه ، والجلال في قلوب الخلقِ ، وحسن الثَّناء وَالحمد ، وَأما سعادات الآخرة ، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة .

وقيل : المراد من إتمام النِّعمة : خلاصته من المحن ، ويكون وجه التَّشبيه ب " إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام " وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح

وقيل : إن إتْمَام النَّعمة هو : وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة ؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً ، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة .

وقيل : : إتمام النِّعمة على إبراهيم : خُلَّتهُ ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه .

ومن فسر الاجتباء : بالدَّرجات العالية ؛ فسَّر : إتمام النِّعمة : بالنُّبوَّة ؛ لأنَّ الكمال المطلق ، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة ، يدلُّ عليه قوله تعالى : { وعلى آلِ يَعْقُوبَ } أي : على أولاده ؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء ، وقوله : { كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة ؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة : هو النبوة ، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء ؛ كقوله تعالى : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ } .

فإن قيل : كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء ، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام ؟ .

فالجواب : أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة ، العصمة ، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة ، لا قبلها .

قوله { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } " يجُوز أن يكونا بدلاً من " أبَويْكَ " أو عطف بيان ، أو على إضمار أعني " ، ثم لما وعد عليه الصلاة والسلام بهذه الدرجات الثلاث ، ختم [ الآية ] بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فقوله " عَلِيمٌ " إشارة إلى قوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقوله : " حَكِيمٌ " إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث ، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط

فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها ، أم لا ؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها ، فيكف حزن على يوسف ؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه ؟ وكيف قال لإخوته : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ يوسف : 13 ] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه ، ويبعثُه رسولاً ؟ .

وإن قلت : إنه عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بهذه الأحوال ، فكيف قطع بها ؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ ؟ .

فالجواب قال ابنُ الخطيب : " لا يبعُد أن يكون : قوله : { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } مشروطاً بألا يكيدُوه ؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم ، وأيضاً : فيبعُد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام سيصلُ إلى هذه المناصب ، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة ، ثم يتخلَّص منها ، أو يصل إلى تلك المناصب ، وكان خوفه بهذا السَّبب ، ويكُون معنى قوله : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب } [ يوسف : 13 ] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه " .