مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (6)

ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أمورا : أولها : قوله : { وكذلك يجتبيك ربك } يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام . قال الزجاج : الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض ، واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء ، فقال الحسن : يجتبيك ربك بالنبوة ، وقال آخرون : المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه . وثانيها : قوله : { ويعلمك من تأويل الأحاديث } وفيه وجوه : الأول : المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلا لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم . قالوا : إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية ، والثاني : تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين ، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله ، وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والثالث : الأحاديث جمع حديث ، والحديث هو الحادث ، وتأويلها مآلها ، ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته ، والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته ، وثالثها : قوله : { ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب } .

واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة ههنا بالنبوة أيضا وإلا لزم التكرار ، بل يفسر إتمام النعمة ههنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة . أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد . وأما سعادات الآخرة : فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى . وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية ، فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور : الأول : أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان . وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة ، فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة ، فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة ، والثاني : قوله : { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة ، فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة .

واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء ، وذلك لأنه قال : { ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب } وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب ، فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولا به في حق أولاده . وأيضا أن يوسف عليه السلام قال : { إني رأيت أحد عشر كوكبا } وكان تأويله أحد عشر نفسا لهم فضل وكمال ، ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض ، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى . وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلا .

فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام ؟

قلنا : ذاك وقع قبل النبوة ، وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها .

القول الثاني : أن المراد من قوله : { ويتم نعمته عليك } خلاصه من المحن ، ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحق عليهما السلام هو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحق بتخليصه من الذبح .

والقول الثالث : أن إتمام النعمة هو وصل نعمة الله عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة .

واعلم أن القول الصحيح هو الأول ، لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة ، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها ، ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله : { إن ربك عليم حكيم } فقوله : { عليم } إشارة إلى قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقوله : { حكيم } إشارة إلى أن الله تعالى مقدس عن السفه والعبث ، لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية .

فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعا بصحتها أم لا ؟ فإن كان قاطعا بصحتها ، فكيف حزن على يوسف عليه السلام ، وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله ، وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه ، وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ، مع علمه بأن الله سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولا ، فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالما بصحة هذه الأحوال ، فكيف قطع بها ؟ وكيف حكم بوقوعها حكما جازما من غير تردد ؟ قلنا : لا يبعد أن يكون قوله : { وكذلك يجتبيك ربك } مشروطا بأن لا يكيدوه .

قلنا : لا يبعد أن يكون قوله : { وكذلك يجتبيك ربك } مشروطا بأن لا يكيدوه ، لأن ذكر ذلك قد تقدم ، وأيضا فبتقدير أن يقال : إنه عليه السلام كان قاطعا بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله : { وأخاف أن يأكله الذئب } الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه .