قوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } الآية . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم ، وأغلظ علي رضي الله عنه له القول . فقال العباس : مالكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ؟ . فقال له علي رضي الله عنه : ألكم محاسن ؟ فقال نعم : إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } ، أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله . أوجب على المسلمين منعهم من ذلك ، لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده ، فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمرها . فذهب جماعة إلى أن المراد منه : العمارة المعروفة من بناء المساجد ومرمته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا يمتثل . وحمل بعضهم العمارة ههنا على دخول المسجد والقعود فيه . قال الحسن : ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام . قرأ ابن كثير وأهل البصرة : مسجد الله على التوحيد ، وأراد به المسجد الحرام ، لقوله تعالى :{ وعمارة المسجد الحرام } ، ولقوله تعالى { فلا يقربوا المسجد الحرام } ، وقرأ الآخرون : مساجد الله بالجمع والمراد منه أيضا المسجد الحرام . قال الحسن : إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها . قال الفراء : ربما ذهب العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد ، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول : أخذت في ركوب البراذين ، ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار ، يريد الدراهم والدنانير .
قوله تعالى : { شاهدين على أنفسهم بالكفر } ، أراد : وهم شاهدون ، فلما طرحت " وهم " نصبت ، قال الحسن : لم يقولوا نحن كفار ، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر . وقال الضحاك عن ابن عباس : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام ، وذلك أن كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم ، ولم يزدادوا بذلك من الله تعالى إلا بعدا . وقال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل من أنت ؟ فيقول : أنا نصراني ، واليهودي ، يقول : أنا يهودي ، ويقال للمشرك : ما دينك ؟ فيقول : مشرك . قال الله تعالى
قوله تعالى : { أولئك حبطت أعمالهم } لأنها لغير الله عز وجل .
قوله تعالى : { وفي النار هم خالدون } . قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : معناه شاهدين على رسولهم بالكفر ، لأنه ما في بطن إلا ولدته .
{ 17 - 18 ْ } { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ْ }
يقول تعالى : { مَا كَانَ ْ } أي : ما ينبغي ولا يليق { لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ْ } بالعبادة ، والصلاة ، وغيرها من أنواع الطاعات ، والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر بشهادة حالهم وفطرهم ، وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل .
فإذا كانوا { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ْ } وعدم الإيمان ، الذي هو شرط لقبول الأعمال ، فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد اللّه ، والأصل منهم مفقود ، والأعمال منهم باطلة ؟ " .
ولهذا قال : { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ْ } أي : بطلت وضلت { وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ْ }
ثم أخذت السورة بعد ذلك في إعلان حكم آخر يتعلق بتعمير مساجد الله ، فبينت أنه يحرم على المشركين أن يعمروا مساجد الله ، وأن المستحقين لذلك هم المؤمنين الصادقون ، فقال - تعالى - : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ . . . مِنَ المهتدين } .
قال الجمل : وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر ، منهم العباس بن عبد المطلب ، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعيرونهم بالشرك . وجعل على بن أبى طالب يوبخ العباس بسب قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقطيعة الرحم .
فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا ؟ فقيل له : وهل لكم محاسن ؟ قال : نعم . ونحن أفضل منكم . إنا لنعمر المسجد الحرام . ونحجب الكعبة - أى نخدمها - ، ونسقى الحجيج ، ونفك العانى - أى الأسير - فنزلت هذه الأية .
وقال صاحب المنار : والمراد أن هذه الآية تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به العباس وغيره من كبراء المشركين ، لا أنها نزلت عندما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة ، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم .
وقوله : { يَعْمُرُواْ } من العمارة التي هي نقيض الخراب . يقال : عمر فلان أرضه يعمرها عمارة إذا تعهدها بالخدمة والاصلاح والزراعة .
والمراد بعمارة المساجد ، هنا : ما يشمل إقامة العبادة فيها ، وإصلاح بنائها وخدمتها ، ونظافتها ، واحترامها ، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذي ينبت من أجله .
وقوله : { مَسَاجِدَ الله } قرأ أبو عمر وابن كثير { مسجد الله } بالإِفراد ، فيكون المراد به المسجد الحارم : لأنه أشرف في المساجد في الأرض ، ولأنه قلبه المساجد كلها . . فلا يجوز للمشركين دخوله أو الخدمة فيه .
وقرأ الجمهور { مَسَاجِدَ الله } بالجمع ، فيكون المراد من المساجد جميعها لأنها جميع مضاف في سياق النفى فيعم سائر المساجد ، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولا أولياً ، لأن تعميره منط افتخارهم ، وأهم مقاصدهم . وهذه القراءة آكد في النفى ، لأن نفى الجمع يدل على النفى عن كل فرد ، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، فإن قولك هذا أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك .
قوله : { شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } حال من الواو في قوله { يَعْمُرُواْ } .
وفائدة المجئ بهذه الجملة : الأشعار بأن كفرهم كفر صريح ، وأنهم يعترفون به اعترافاً لا يملكون إنكاره ، ولا يسعهم إلا إقراره .
والمعنى : لا ينبغى ولا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله التي بنيت لعبادته وحده - سبحانه . وذلك لأن هؤلاء المشركين قد شهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نطقت بها السنتهم ، وأيدتها أعمالهم .
فهم لا ينطقون بكلمة التوحيد ، وإنما ينطقون بكلمة التوحيد ، وإنما ينطقون بالكفر والاشراك . وهم لا يعملون أعمال المؤمنين ، وإنما يعملون الأعمال القبيحة التي تدل على إصرارهم على باطلهم كسجودهم للأصنام عقب الطواف بالكعبة .
قال الفخر الرازى : وذكروا في تفسيره هذه الشهادة وجوها :
الأول - وهو الأصح : أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان ، وتكذيب القرآن ، وإنكار نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - وكل ذلك كفر ؛ فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر ، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كفرة .
الثانى . قال السدى : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن يقول عابد الوثن أنا عابد الوثن .
الثالث : أنهم كانوا يطوفون عراة ؛ وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام ، وكانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك .
ثم بين - سبحانه - : في ختام الآية سوء عاقبتهم فقال { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } :
أى : أولئك المشركون الشاهدون على أنفسهم بالكفر قد فسدت أعمالهم التي كانوا يفتخرون بها مثل العمارة والحاجة والسقاية لأنها مع الكفر ى قيمة لها ، { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } يوم القيامة بسبب كفرهم وإصرارهم على باطلهم .
( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ؛ أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون . إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، ولم يخش إلا الله ، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين . أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله ? لا يستوون عند الله ، والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ، وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ، وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) .
وبعد البراءة والإعلان لم يبق عذر ولا حجة لمن لا يقاتل المشركين ؛ ولم يعد هنالك تردد في حرمانهم زيارة البيت أو عمارته ، وقد كانوا يقومون بهما في الجاهلية ، وهنا ينكر السياق على المشركين أن يكون لهم الحق في أن يعمروا بيوت الله ، فهو حق خالص للمؤمنين بالله ، القائمين بفرائضه ؛ وما كانت عمارة البيت في الجاهلية وسقاية الحاج لتغير من هذه القاعدة . وهذه الآيات كانت تواجه ما يحيك في نفوس بعض المسلمين الذين لم تتضح لهم قاعدة هذا الدين .
( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) . .
فهو أمر مستنكر منذ الابتداء ، ليس له مبرر لأنه مخالف لطبائع الأشياء . إن بيوت الله خالصة لله ، لا يذكر فيها إلا اسمه ، ولا يدعى معه فيها أحد غيره ، فكيف يعمرها من لا يعمر التوحيد قلوبهم ، ومن يدعون مع الله شركاء ، ومن يشهدون على أنفسهم بالكفر شهادة الواقع الذي لا يملكون إنكاره ، ولا يسعهم إلا إقراره ? إقراره ?
فهي باطلة أصلا ، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله .
يقول تعالى : ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له . ومن قرأ : " مسجد الله " فأراد به المسجد الحرام ، أشرف المساجد في الأرض ، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له . وأسسه خليل الرحمن هذا ، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر ، أي : بحالهم وقالهم ، كما قال السُّدِّي : لو سألت النصراني : ما دينك ؟ لقال : نصراني ، واليهودي : ما دينك ؟ لقال يهودي ، والصابئي ، لقال : صابئي ، والمشرك ، لقال : مشرك .
{ ما كان للمشركين } ما صح لهم . { أن يعمروا مساجد الله } شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام وقيل هو المراد وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع ويدل عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد . { شاهدين على أنفسهم بالكفر } بإظهار الشرك وتكذيب الرسول ، وهو حال من الواو والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله وعبادة غيره . روي ( أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ له علي رضي الله تعالى عنه في القول فقال : ما بالكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني ) فنزلت . { أولئك حبطت أعمالهم } التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك . { وفي النار هم خالدون } لأجله .
وقوله تعالى { ما كان للمشركين } الآية{[5557]} ، معناه ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا ، وهذا هو الذي نفى الله عز وجل وإلا فقد عمروا مساجده قديماً وحديثاً وتغلباً وظلماً ، وقرأ حماد بن أبي سلمة عن ابن كثير والجحدري «مسجد الله » بالإفراد في الموضعين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وقتادة وغيرهم «مساجد » بالجمع في الموضعين ، وقرأ ابن كثير أيضاً وأبو عمرو «مسجد » بالإفراد في هذا الموضع الأول و «مساجد » بالجمع في الثاني ، كأنه ذكر أولاً فيه النازلة ذلك الوقت ، ثم عمت المساجد ثانياً في الحكم الثابت ما بقيت الدنيا ، ولفظ الجمع يقتضي عموم المساجد كلها ، ويحتمل أن يراد به المسجد الحرام في الموضعين وحده على أن يقدر كل موضع سجود فيه مسجداً ثم يجمع ، ولفظ الإفراد في الموضعين يقتضي خصوص المسجد الحرام وحده ، ويحتمل أن يراد به الجنس فيعم المساجد كلها ولا يمنع من ذلك إضافته كما ذهب إليه من لا بصر له ، وقال أبو علي الثاني في هذه القراءة يراد به الأول وسائر المساجد كلها حكمها حكم المسجد الحرام ، وقوله { شاهدين على أنفسهم بالكفر } إشارة إلى حالهم إذ أقوالهم وأفعالهم تقتضي الإقرار بالكفر والتحلي به ، وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية إلا شريك هو لك ونحو ذلك ، وحكى الطبري عن السدي أنه قال : الإشارة إلى أن النصراني كان يقول أن نصراني واليهودي كذلك والوثني يقول أنا مشرك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لم يحفظ ، ثم حكم الله تعالى عليهم بأن أعمالهم { حبطت } أي بطلت ولا أحفظها تستعمل إلا في السعي والعمل ، ويشبه أن يكون من الحبط وهو داء قاتل يأخذ السائمة إذا رعت وبيلاً وهو الذي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم » الحديث{[5558]} .
هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين ، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل ، وهو مرتبط بما تضمّنته البراءة في قوله : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } [ التوبة : 1 ] ولِمَا اتّصَل بتلك الآية من بيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق : أنْ لا يَحُج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان . وهو توطئة لقوله : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] .
وتركيب ( ما كان لهم أن يفعلوا ) يدلّ على أنّهم بُعداء من ذلك ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة } في سورة آل عمران ( 79 ) ، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات .
و{ مَساجد الله } مواضع عبادته بالسجود والركوع : المراد المسجدُ الحرام وما يتبعه من المسعى ، وعرفةُ ، والمشعرُ الحرام ، والجَمَرات ، والمَنْحر من منى .
وعمْر المساجد : العبادةُ فيها لأنّها إنّما وضعت للعبادة ، فعَمْرها بمن يحلّ فيها من المتعبّدين ، ومن ذلك اشتقّت العُمرة ، والمعنى : ما يحقّ للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله . وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين : إيماء إلى أنّ الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله .
وقد جاء الحال في قوله : { شاهدين على أنفسهم بالكفر } مبيِّناً لسبب براءتهم من أن يعمروا مساجد الله ، وهو حال من ضمير { يعمروا } فبين عامل الضمير وهو { يعمروا } الداخلُ في حكم الانتفاء ، أي : انتفى تأهّلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله ، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده .
والمراد بالكفر : الكفر بالله ، أي بوحدانيته ، فالكفر مرادف للشرك ، فالكفر في حدّ ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابِه مساجد الله ، لأنّها مساجد الله فلا حقّ لغير الله فيها ، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره ، وأقام إبراهيم عليه السلام أوّل مسجد وهو الكعبة عنواناً على التوحيد ، وإعلاناً به ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) ، فهذه أوّل درجة من الحرمان . ثم كونُ كفرهم حاصلاً باعترافهم به موجبٌ لانتفاء أقلّ حظ من هذه العمارة ، وللبراءة من استحقاقها ، وهذه درجة ثانية من الحرمان .
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم ، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك ، مثل قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ، ومثل سجودهم للأصنام ، وطوافهم بها ، ووضعهم إيّاها في جوف الكعبة وحولَها وعلى سطحها .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بإفراد { مسجد الله } أي المسجد الحرام وهو المقصود ، أو التعريف بالإضافة للجنس . وقرأ الباقون : { مسَاجد الله } ، فيعمّ المسجد الحرام وما عددناه معه آنفاً .
وجملة { أولئك حبطت أعمالهم } ابتداءُ ذم لهم ، وجيء باسم الإشارة لأنّهم قد تميّزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] بعد قوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] الآية .
و { حبطت } بطلت ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في سورة البقرة ( 217 ) .
وتقديم { في النار } على { خالدون } للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه .