قوله تعالى : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به } ، أي : يستوي في علم الله المسير بالقول والجاهر به ، { ومن هو مستخف بالليل } ، أي : مستتر بظلمة الليل ، { وسارب بالنهار } ، أي : ذاهب في سربه ظاهر . والسرب -بفتح السين وسكون الراء- : الطريق . قال القتيبي : سارب بالنهار : أي متصرف في حوائجه . قال ابن عباس في هذه الآية : هو صاحب ريبة ، مستخف بالليل ، فإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم . وقيل : مستخف بالليل ، أي : ظاهر ، من قولهم : خفيت الشيء ، إذا أظهرته ، وأخفيته : إذا كتمته . وسارب بالنهار : أي متوار داخل في سرب .
وقوله - سبحانه { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار } تأكيد آخر لشمول - علمه - سبحانه - لأحوال عباده .
وسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء ، والمراد به هنا اسم الفاعل . أى : مستو .
قال الجمل : " وفيه وجهان : أحدهما أنه خبر مقدم ، ومن أسر ومن جهر هو المبتدأ ، وإنما لم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر ، وهو هنا بمعنى مستو .
والثانى أنه مبتدأ ، وجاز الابتداء به لوصفه بقوله { منكم } .
و { وَسَارِبٌ بالنهار } أى : ظاهر بالنهار . يقال : سرب في الأرض يسرب سربا وسروبا .
أى : ذهب في سربه - بسكون الراء وكسر السين وفتحها - أى طريقة .
والمعنى : أنه - تعالى - مستوٍ في عمله من أسر منكم القول ، ومن جهر به بأن أعلنه لغيره .
ومستوٍ في علمه - أيضا - من هو مستتر في الظلمة الكائنة في الليل ، ومن هو ذاهب في سربه وطريقه بالنهار بحيث يبصره غيره .
وذكر - سبحانه - الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء ، وذكر السروب مع لنهار لكونه أشد ظهورا .
( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) . . والتقابل واضح في العبارة . إنما تستوقفنا كلمة( سارب )وهي تكاد بظلها تعطي عكس معناها ، فظلها ظل خفاء أو قريب من الخفاء . والسارب : الذاهب . فالحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء . هذه النعومة في جرس اللفظ وظله مقصودة هنا كي لا تخدش الجو . جو العلم الخفي اللطيف الذاهب وراء الحمل المكنون والسر الخافي والمستخفي بالليل والمعقبات التي لا تراها الأنظار . فاختار اللفظ الذي يؤدي معنى التقابل مع المستخفي ولكن في لين ولطف وشبه خفاء !
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه ، سواء{[15468]} منهم من أسر قوله أو جهر به ، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كما قال : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] وقال : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 25 ] وقالت عائشة ، رضي الله عنها : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا في جنب البيت ، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها ، فأنزل الله : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ المجادلة : 1 ] .
وقوله : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ } أي : مختف في قعر بيته في ظلام الليل ، { وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } أي : ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه ، فإن كليهما{[15469]} في علم الله على السواء ، كما قال تعالى : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ هود : 5 ] وقال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ يونس : 61 ] .
{ سواء منكم من أسرّ القول } في نفسه . { ومن جهر به } لغيره . { ومن هو مستخفٍ بالليل } طالب للخفاء في مختبأ بالليل . { وساربٌ } بارز . { بالنهار } يراه كل أحد من سرب سروبا إذا برز ، وهو عطف على من أو مستخف على أن من في معنى الاثنين كقوله :
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كأنه قال سواء منكم اثنين مستخف بالليل وسارب بالنهار ، والآية متصلة بما قبلها مقررة لكمال علمه وشموله .
وقوله تعالى : { سواء منكم } الآية : { سواء } مصدر وهو يطلب بعده شيئين يتماثلان . ورفعه على خبر الابتداء الذي هو «من » والمصدر لا يكون خبراً إلا بإضمار كما قالت الخنساء : [ البسيط ] :
*** فإنما هي إقبال وإدبار{[6916]}
أي ذات إقبال وإدبار . فقالت فرقة هنا : المعنى : ذو سواء ، وقال الزجاج كثر استعمال سواء في كلام العرب حتى جرى مجرى اسم الفاعل فلا يحتاج إلى إضمار .
قال القاضي أبو محمد : هو عندي كعدل وزور وضيف .
وقالت فرقة : المعنى : مستوٍ منكم ، فلا يحتاج إلى إضمار .
قال القاضي أبو محمد : وضعف هذا سيبويه بأنه ابتداء بنكرة{[6917]} .
ومعنى هذه الآية : معتدل منكم في إحاطة الله تعالى وعلمه من أسر قوله فهمس به في نفسه ، { ومن جهر به } فأسمع ، لا يخفى على الله تعالى شيء .
وقوله تعالى : { ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } معناه : من هو بالليل في غاية الاختفاء ، ومن هو متصرف بالنهار ذاهب لوجهه ، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما . وذهب ابن عباس ومجاهد إلى معنى مقتضاه : أن «المستخفي والسارب » هو رجل واحد مريب بالليل ، ويظهر بالنهار البراءة في التصرف مع الناس .
قال القاضي أبو محمد : فهذا قسم واحد جعل الليل نهار راحته ، والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الرب سواء في اطلاع الله تعالى على الكل ، ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار { من } ولا يأتي حذفها إلا في الشعر و «السارب » - في اللغة - المتصرف كيف شاء ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الأخنس بن شهاب الثعلبي ] [ الطويل ]
أرى كل قوم كاربوا قيد محلهم . . . ونحن حللنا قيده فهو سارب{[6918]}
أي متصرف غير مدفوع عن جهة ، هذا رجل يفتخر بعزة قومه ، ومن ذلك قول الآخر : [ قيس بن الخطيم ] [ الكامل ]
إني سربت وكنت غير سروب ***وتقرب الأحلام غير قريب{[6919]}
وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف : فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث : متوسط متلون : يعصي بالليل مستخفياً ، ويظهر البراءة بالنهار . و { القول } في الآية يطرد معناه في الأعمال .
وقال قطرب - فيما حكى الزجاج - { مستخف } معناه : الظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته .
قال القاضي أبو محمد : قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
خفاهن من أنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من عشي مجلّب{[6920]}
قال : و { سارب } معناه : متوار في سرب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول - وإن كان تعلقه باللغة بيناً- فضعيف ، لأن اقتران الليل ب «المستخفي » ، والنهار ب «السارب » - يرد على هذا القول .