محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{سَوَآءٞ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ} (10)

/ [ 10 ] { سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار 10 } .

{ سواء منكم من أسرّ القول } أي في نفسه { ومن جهر به } أي لغيره { ومن هو مستخف بالليل } أي : طالب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته { وسارب بالنهار } أي : ذاهب في سربه ، أي في طريقه يبصره كل أحد .

لطيفة :

قيل : إن { سواء } بمعنى الاستواء وهو يقتضي ذكر شيئين ، وهنا إذا كان { سارب } معطوفا على جزء الصلة أو الصفة ، يكون شيئا واحدا .

وأجيب عنه بوجهين : ( الأول ) أن { سارب } معطوف على { من هو } لا على { مستخف } كأنه قيل : سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر هو سارب . و ( الثاني ) أنه عطف على { مستخف } ، إلا أن ( من ) في معنى الاثنين كقوله{[5060]} :

* نكن مثل من يا ذئب يصطحبان *

كأنه قيل : سواء منكم اثنان هما مستخف وسارب . وعلى الوجهين ( من ) موصوفة لا موصولة . فيحمل الأولان على ذلك ليتوافق الكل .

وهناك وجه آخر وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية ، والمعنى : ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار . وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع . خصوصا وقد / تكرر الموصول في الآية ثلاثا . ومنه قوله تعالى{[5061]} : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } والأصل : ولا ما يفعل بكم . وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه . لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف ، لم يكن للنفي موقع ، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة ، ومنه قول حسان رضي الله عنه{[5062]} :

فمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء !

أي : ومن يمدحه وينصره .

وهذا الأخير نقله الناصر في ( الانتصاف ) وهو وجيه جدا . وأما تضعيف غيره له ، بلزوم حذف الموصول وصدر الصلة معا ، وأن النحاة ، وإن ذكروا جواز كل منهما ، لكن اجتماعهما منكر فهو المنكر . لأن أسلوب التنزيل هو الحجة ، وإليه التحاكم في كل فن ومحجّة ، والجمود على القواعد ورد ما خالفها ، إليها من التعصب واللجاج ، والغفلة عن مقام التنزيل في الاحتجاج !


[5060]:البيت، يخاطب فيه الذئب: تعش. فإن واثقتني لا تخونني*** نكن مثل من، يا ذئب، يصطحبان وقائله الفرزدق من قصيدته التي مطلعها: وأطلس عسّال وما كان صاحبا*** دعوت بناري موهنا فأتاني
[5061]:[46 / الأحقاف / 9].
[5062]:من قصيدته التي يهجو بها أبا سفيان. ومطلعها: عفت ذات الأصابع فالجواء*** إلى عذراء منزلها خلاء ذات الأصابع والجواء: موضعان بالشام بأكناف دمشق وعذراء: موضع على بريد من دمشق.