المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{سَوَآءٞ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ} (10)

وقوله تعالى : { سواء منكم } الآية : { سواء } مصدر وهو يطلب بعده شيئين يتماثلان . ورفعه على خبر الابتداء الذي هو «من » والمصدر لا يكون خبراً إلا بإضمار كما قالت الخنساء : [ البسيط ] :

*** فإنما هي إقبال وإدبار{[6916]}

أي ذات إقبال وإدبار . فقالت فرقة هنا : المعنى : ذو سواء ، وقال الزجاج كثر استعمال سواء في كلام العرب حتى جرى مجرى اسم الفاعل فلا يحتاج إلى إضمار .

قال القاضي أبو محمد : هو عندي كعدل وزور وضيف .

وقالت فرقة : المعنى : مستوٍ منكم ، فلا يحتاج إلى إضمار .

قال القاضي أبو محمد : وضعف هذا سيبويه بأنه ابتداء بنكرة{[6917]} .

ومعنى هذه الآية : معتدل منكم في إحاطة الله تعالى وعلمه من أسر قوله فهمس به في نفسه ، { ومن جهر به } فأسمع ، لا يخفى على الله تعالى شيء .

وقوله تعالى : { ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } معناه : من هو بالليل في غاية الاختفاء ، ومن هو متصرف بالنهار ذاهب لوجهه ، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما . وذهب ابن عباس ومجاهد إلى معنى مقتضاه : أن «المستخفي والسارب » هو رجل واحد مريب بالليل ، ويظهر بالنهار البراءة في التصرف مع الناس .

قال القاضي أبو محمد : فهذا قسم واحد جعل الليل نهار راحته ، والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الرب سواء في اطلاع الله تعالى على الكل ، ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار { من } ولا يأتي حذفها إلا في الشعر و «السارب » - في اللغة - المتصرف كيف شاء ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الأخنس بن شهاب الثعلبي ] [ الطويل ]

أرى كل قوم كاربوا قيد محلهم . . . ونحن حللنا قيده فهو سارب{[6918]}

أي متصرف غير مدفوع عن جهة ، هذا رجل يفتخر بعزة قومه ، ومن ذلك قول الآخر : [ قيس بن الخطيم ] [ الكامل ]

إني سربت وكنت غير سروب ***وتقرب الأحلام غير قريب{[6919]}

وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف : فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث : متوسط متلون : يعصي بالليل مستخفياً ، ويظهر البراءة بالنهار . و { القول } في الآية يطرد معناه في الأعمال .

وقال قطرب - فيما حكى الزجاج - { مستخف } معناه : الظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته .

قال القاضي أبو محمد : قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

خفاهن من أنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من عشي مجلّب{[6920]}

قال : و { سارب } معناه : متوار في سرب .

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول - وإن كان تعلقه باللغة بيناً- فضعيف ، لأن اقتران الليل ب «المستخفي » ، والنهار ب «السارب » - يرد على هذا القول .


[6916]:هذا عجز بيت قالته الخنساء ضمن أبيات في تصوير حيرتها وقلقها وآلامها لفقد أخيها، وشبهت نفسها بناقة فقدت وليدها فهي في حنين وشوق، وكلما نسيت عادت فتذكرت ورجعت إلى آلامها وحيرتها، والبيت بتمامه مع بيت آخر قبله: فما عجول على َبِّو تطيف به لها حنينان إصغار وإكبار ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار والبو هو الُحوار الصغير، والإصغار: الحنين إذا خفضته، والإكبار: الحنين إذا رفعته، ورتعت: رعت في خصب وسعة.
[6917]:علق أبو حيان في "البحر المحيط" على ذلك فقال: "وهو لا يصح، بل يجوز أن يكون [سواء] مبتدأ لأنه موصوف بقوله: [منكم] ومن المعطوف الخبر، وكذا أعرب سيبويه قول العرب: "سواء عليه الخير والشر".
[6918]:هذا البيت للأخنس بن شهاب التغلبي، ورواه اللسان: وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب وقد روى صاحب اللسان عن الأصمعي قوله: "هذا مثل، يريد أن الناس أقاموا في موضع واحد لا يجترئون على النقلة إلى غيره ، وقاربوا قيد فحلهم، أي: حبسوا فحلهم عن أن يتقدم فتتبعه إبلهم خوفا أن يغار عليها، ونحن أعزاء نقتري الأرض، نذهب فيها حيث نشاء، فنحن قد خلعنا قيد فحلنا ليذهب حيث شاء، فحيثما نزع إلى غيث تبعناه".
[6919]:الشاعر هو قيس بن الخطيم، وقد نقل صاحب اللسان عن ابن دريد قوله: "سربت" بباء موحدة، لقوله: (وكنت غير سروب)، ومن رواه سريت بالياء باثنتين فمعناه: كيف سريت ليلا وأنت لا تسربين نهارا؟".
[6920]:البيت في وصف فرس، والأنفاق جمع نفق، وهو سرب في الأرض إلى موضع آخر، واستعاره امرؤ القيس لحجرة الفئران، والودق: المطر، والغيث المجلب: المصوت، ويروى المحلب بالحاء المهملة، وفي رواية اللسان: "ودق من سحاب مركب". ورواية ابن عطية هي الثابتة في شعر امرىء القيس.