البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{سَوَآءٞ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ} (10)

السارب اسم فاعل من سرب أي تصرف كيف شاء . قال الشاعر :

إني سربت وكنت غير سروب ***وتقرب الأحلام غير قريب

وقال الآخر :

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم -   -ونحن حللنا قيده فهو سارب

أي فهو منصرف كيف شاء ، لا يدفع عن جهة ، يفتخر بعزة قومه .

ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة على العموم ، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين ، فقال : سواء منكم الآية .

والمعنى : سواء في علمه المسر القول ، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله .

وسواء تقدم الكلام فيه ، وفي معانيه ، وهو هنا بمعنى مستو ، وهو لا يثني في أشهر اللغات .

وحكى أبو زيد تثنيته فتقول : هما سواآن .

وقيل : هو على حذف أي : سواء منكم سرّ من أسرّ القول ، وجهر من جهر به ، وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر ، والمعطوف عليه مبتدأ .

ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله : منكم ، ومن المعطوف الخبر .

وكذا أعرب سيبويه قول العرب : سواء عليه الخير والشر .

وقول ابن عطية : إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة ، وهو لا يصح .

وقال ابن عباس : مستخف مستتر وسارب ظاهر .

وقال مجاهد : مستخف بالمعاصي .

وتفسير الأخفش وقطرب : المستخفي هنا بالظاهر .

وإن كان موجوداً في اللغة ينبو عنه اقترانه بالليل ، واقتران السارب بالنهار .

وتقابل الوصفان في قوله : ومن هو مستخف ، إذ قابل من أسر القول .

وفي قوله : سارب بالنهار إذ قابل ومن جهر به .

والمعنى والله أعلم إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم ، لا يعزب عنه شيء من ذلك .

وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من ، لكنه حذف للعلم به ، إذ تقدم قوله : من أسرّ القول ومن جهر به ، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين ، وأجازه الكوفيون .

ويجوز أن يكون : وسارب ، معطوفاً على من ، لا على مستخف ، فيصح التقسيم .

كأنه قيل : سواء شخص هو مستخف بالليل ، وشخص هو سارب بالنهار .

ويجوز أن يكون معطوفاً على مستخف .

وأريد بمن اثنان ، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو ، وعلى لفظ من في إفراد هو .

والمعنى : سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار ، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار ، وليرى نصرفه في الناس .

قال ابن عطية : فهذا قسم واحد ، جعل الله نهار راحته .

والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب ، سواء في اطلاع الله تعالى على الكل .

ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من ، ولا يأتي حذفها إلا في الشعر .

وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف .

فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفياً ويظهر البراءة بالنهار انتهى .

وقيل : ومن هو مستخف بالليل بظلمته ، يريد إخفاء عمله فيه كما قال : أزورهم وسواد الليل يشفع لي .

وقال :

وكم لظلام الليل عندي من يد *** والظاهر عود الضمير في له على من ، كأنه قيل لمن أسرّ ، ومن جهر ، ومن استخفى ، ومن سرب : معقبات .