قوله تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } .
أحدهما : أنه خبرٌ مقدمٌ ، و : " مَنْ اسرَّ " ، و " مَنْ جَهرَ " هو المبتدأ ، وإنما لم يثن الخبر ؛ لأنَّه في الأصل مصدر ، وهو ههنا بمعنى متسوٍ ، و " مِنكُمْ " على هذا حالٌ من الضمير المستتر في " سَواءٌ " ؛ لأنه بمعنى مستوٍ .
قال أبو البقاء : " ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في " أسرَّ " ، و " جَهَرَ " لوجهين :
أحدهما : تقديم ما في الصلة على الموصول ، أو الصِّفة على الموصوف .
والثاني : تقديم الخبر على " مِنْكُم " وحقُّه أن يقع بعده " .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : " وحقُّه أ ، يقع بعده يعني : بعدهُ ، وبعد المبتدأ ، ولا يصير كلامه لا معنى له " .
والثاني : أنه مبتدأ وجاز الابتداء به لوصفه بقوله : " مِنْكُم " .
وأعرب سيبويه : " سواءٌ " عليه الجهر والسِّر كذلك ، وقول بن عطيَّة : إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه .
قال ابنُ الخطيب : لفظ " سواء " يطلب اثنين ، تقول : " سواء زيد ، وعمرو " ، ثم فيه وجهان :
الأول : أنَّ " سواءٌ " مصدر ، والمعنى : ذو سواء ، كما تقول : عدل زيد وعمرو ، أي : ذو عدلٍ .
الثاني : أن يكون " سواءٌ " بمعنى مستوٍ ، وعلى هذا التقدير ، فلا حاجة إلى الإضمار ، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال : مستو زيد وعمرو ؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها .
ولقائلٍ أن يقول : بل هذا الوجه أول ؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل .
قوله : { وَسَارِبٌ بالنهار } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفاً على " مُسْتَخْفٍ " ، ويراد ب " مَنْ " حينئذ اثنان ، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ " هُوَ " على لفظها ، فأفرده ، والخبر على معناها فثناه .
والوجه الثاني : أن يكون عطفاً على " من هُوَ " في " ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ " لا على : مُستَخفٍ " وحده .
ويوضح هذين الوجيهن ما قاله الزمخشريُّ قال : " فإن قلت : كان حق العبارةِ أن يقال : ومن هو مستخف باللَّيل ، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتنول معنى الاستواء المستخفي ، والسارب ، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب .
أحدهما : أن قوله : " سَارِبٌ " عطف على : " مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ " [ لا على : : مُسْتَخْفٍ " .
والثاني : أنَّه عطف على : " مُسْتَخْفٍ " إلا أنَّ : " مَنْ " في معنى الاثنين ؛ كقوله : [ الطويل ]
3166 . . . . . . . . . . . . . . . . *** نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ
كأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل ، وسارب بالنَّهار " .
قال شهابُ الدِّين : وفي عبارته بقوله : كان حق العبارة كذا سوء أدب ، وقوله كقوله : " نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب " يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه : [ الطويل ]
3167 تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي *** نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ
وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى ، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط ، وهو مقصوده .
وقوله : " وإلا فقد تناتول واحدٌ هو مستخق وسارب " لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّارب شخص واحد يستخفي بالليل ، ويسرب بالنَّهار ، ليري تصرفه في النَّاس .
الثالث : أن يكون على حذف " مَنْ " الموصولة ، أي : ومن هو سارب ، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين ، فإنهم يجيزون حذف الموصول ، وقد استدلالهم على ذلك .
والسَّاربُ : اسم فاعل من " سَرَبَ ، يَسْرُبُ " ، أي : تصرف كيف يشاء ؛ قال : [ الكامل ]
3168 أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ *** وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ
3169 وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ *** ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدُهُ فهو سَارِبُ
أي : متصرف كيف توجَّه ، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة ، والقوة .
معنى الكلام : أي : يستوي في علم الله المسر في القول ، والجاهر به . وفي المستخفي ، والسَّارب وجهان :
الأول : يقال : أخفيت الشيء أخفيه فخفي ، واستخفى فلان من فلان ، أي : توارى واستتر منه .
والسَّارب : قال الفراء والزجاج : أي : ظاهر بالنهار في سربه ، أي : طريقه يقال : خلا له سربه ، أي : طريقه ، والسَّرب بفتح السِّين ، وسكون الراء الطريق .
وقال الأزهري : " تقول العرب : سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً ، أي : مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت " .
فمعنى الآية : سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ .
قال ابن عباس : " سواء ما أضمرته القلوب ، أو أظهرته الألسنة " .
وقال مجاهد : سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل ، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي .
وقال ابن عباس أيضاً : " هو صاحب ريبة مستخسف بالليل ، وإذا خرج النهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم " .
والقول الثاني : نقل الواحدي عن الأخفش ، وقطرب قال : المستخفي : الظاهر والسارب : المتواري ، ومنه يقال : خفيت الشيء ، أي : أظهرته ، وأخفيت الشيء أي : استخرجته ، ويسمى النَّبَّاش : المستخفي ، والسَّارب : المتواري ، أي : الداخل سرباً ، وانسرب الوحش : إذا دخل في السِّرب ، أي : في كناسه .
قال الواحديُّ : " وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه ، وأيضاً : فالليل يدلُّ على الاستتار ، والنهار على الظهور " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.