اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَوَآءٞ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ} (10)

قوله تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } .

في " سَواءٌ " وجهان :

أحدهما : أنه خبرٌ مقدمٌ ، و : " مَنْ اسرَّ " ، و " مَنْ جَهرَ " هو المبتدأ ، وإنما لم يثن الخبر ؛ لأنَّه في الأصل مصدر ، وهو ههنا بمعنى متسوٍ ، و " مِنكُمْ " على هذا حالٌ من الضمير المستتر في " سَواءٌ " ؛ لأنه بمعنى مستوٍ .

قال أبو البقاء : " ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في " أسرَّ " ، و " جَهَرَ " لوجهين :

أحدهما : تقديم ما في الصلة على الموصول ، أو الصِّفة على الموصوف .

والثاني : تقديم الخبر على " مِنْكُم " وحقُّه أن يقع بعده " .

قال شهابُ الدِّين رحمه الله : " وحقُّه أ ، يقع بعده يعني : بعدهُ ، وبعد المبتدأ ، ولا يصير كلامه لا معنى له " .

والثاني : أنه مبتدأ وجاز الابتداء به لوصفه بقوله : " مِنْكُم " .

وأعرب سيبويه : " سواءٌ " عليه الجهر والسِّر كذلك ، وقول بن عطيَّة : إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه .

قال ابنُ الخطيب : لفظ " سواء " يطلب اثنين ، تقول : " سواء زيد ، وعمرو " ، ثم فيه وجهان :

الأول : أنَّ " سواءٌ " مصدر ، والمعنى : ذو سواء ، كما تقول : عدل زيد وعمرو ، أي : ذو عدلٍ .

الثاني : أن يكون " سواءٌ " بمعنى مستوٍ ، وعلى هذا التقدير ، فلا حاجة إلى الإضمار ، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال : مستو زيد وعمرو ؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها .

ولقائلٍ أن يقول : بل هذا الوجه أول ؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل .

قوله : { وَسَارِبٌ بالنهار } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفاً على " مُسْتَخْفٍ " ، ويراد ب " مَنْ " حينئذ اثنان ، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ " هُوَ " على لفظها ، فأفرده ، والخبر على معناها فثناه .

والوجه الثاني : أن يكون عطفاً على " من هُوَ " في " ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ " لا على : مُستَخفٍ " وحده .

ويوضح هذين الوجيهن ما قاله الزمخشريُّ قال : " فإن قلت : كان حق العبارةِ أن يقال : ومن هو مستخف باللَّيل ، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتنول معنى الاستواء المستخفي ، والسارب ، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب .

قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن قوله : " سَارِبٌ " عطف على : " مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ " [ لا على : : مُسْتَخْفٍ " .

والثاني : أنَّه عطف على : " مُسْتَخْفٍ " إلا أنَّ : " مَنْ " في معنى الاثنين ؛ كقوله : [ الطويل ]

3166 . . . . . . . . . . . . . . . . *** نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ

كأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل ، وسارب بالنَّهار " .

قال شهابُ الدِّين : وفي عبارته بقوله : كان حق العبارة كذا سوء أدب ، وقوله كقوله : " نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب " يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه : [ الطويل ]

3167 تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي *** نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ

وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى ، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط ، وهو مقصوده .

وقوله : " وإلا فقد تناتول واحدٌ هو مستخق وسارب " لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّارب شخص واحد يستخفي بالليل ، ويسرب بالنَّهار ، ليري تصرفه في النَّاس .

الثالث : أن يكون على حذف " مَنْ " الموصولة ، أي : ومن هو سارب ، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين ، فإنهم يجيزون حذف الموصول ، وقد استدلالهم على ذلك .

والسَّاربُ : اسم فاعل من " سَرَبَ ، يَسْرُبُ " ، أي : تصرف كيف يشاء ؛ قال : [ الكامل ]

3168 أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ *** وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ

وقال آخر : [ الطويل ]

3169 وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ *** ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدُهُ فهو سَارِبُ

أي : متصرف كيف توجَّه ، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة ، والقوة .

فصل

معنى الكلام : أي : يستوي في علم الله المسر في القول ، والجاهر به . وفي المستخفي ، والسَّارب وجهان :

الأول : يقال : أخفيت الشيء أخفيه فخفي ، واستخفى فلان من فلان ، أي : توارى واستتر منه .

والسَّارب : قال الفراء والزجاج : أي : ظاهر بالنهار في سربه ، أي : طريقه يقال : خلا له سربه ، أي : طريقه ، والسَّرب بفتح السِّين ، وسكون الراء الطريق .

وقال الأزهري : " تقول العرب : سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً ، أي : مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت " .

فمعنى الآية : سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ .

قال ابن عباس : " سواء ما أضمرته القلوب ، أو أظهرته الألسنة " .

وقال مجاهد : سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل ، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي .

وقال ابن عباس أيضاً : " هو صاحب ريبة مستخسف بالليل ، وإذا خرج النهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم " .

والقول الثاني : نقل الواحدي عن الأخفش ، وقطرب قال : المستخفي : الظاهر والسارب : المتواري ، ومنه يقال : خفيت الشيء ، أي : أظهرته ، وأخفيت الشيء أي : استخرجته ، ويسمى النَّبَّاش : المستخفي ، والسَّارب : المتواري ، أي : الداخل سرباً ، وانسرب الوحش : إذا دخل في السِّرب ، أي : في كناسه .

قال الواحديُّ : " وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه ، وأيضاً : فالليل يدلُّ على الاستتار ، والنهار على الظهور " .