قوله تعالى : { فقولا له قولاً ليناً } يقول : دارياه وارفقا معه ، قال ابن عباس رضي الله عنه : لا تعنفا في قولكما . وقال السدي ، وعكرمة : كنياه ، فقولا يا أبا العباس ، وقيل : يا أبا الوليد . وقال مقاتل : يعني القول اللين " هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك ، فتخشى " . وقيل : أمرهما باللطافة في القول لما له من حق التربية . وقال السدي : القول اللين أن موسى أتاه ووعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم معه ، وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت ، ويبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته ، وإذا مات دخل الجنة ، فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمراً دون هامان ، وكان غائباً . فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى ، وقال : أردت أن أقبل منه ، فقال له هامان : كنت أرى أن لك عقلاً ورأياً أنت رب تريد أن تكون مربوباً ، وأنت تعبد تريد أن تعبد . فغلبه على رأيه وكان هارون يومئذ بمصر ، فأمر الله موسى أن يأتي هارون وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى ، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحي إليه { لعله يتذكر أو يخشى } أي : يتعظ ويخاف ويسلم . فإن قيل : كيف قال ( لعله يتذكر ) وقد سبق في علمه أنه لا يتذكر ولا يسلم قيل : معناه : اذهبا على رجاء منكما وطمع ، وقضاء الله وراء أمركما . وقال الحسين بن الفضل : هو ينصرف إلى غير فرعون ، مجازه لعله يتذكر ويخشى خاش إذا رأى بري وألطافي بمن خلقته وأنعمت عليه ثم ادعى الربوبية . وقال أبو بكر محمد بن عمر الوراق " لعل " من الله واجب ولقد تذكر فرعون وخشى حين لم تنفعه الذكرى والخشية ، وذلك حين ألجمه الغرق قال : ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ هذه الآية ( فقولا له قولاً ليناً ) فبكى يحيى وقال : إلهي هذا برك بمن يقول أنا الإله ، فكيف برك بمن يقول أنت الإله .
{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا } أي : سهلا لطيفا ، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف ، ولا غلظة في المقال ، أو فظاظة في الأفعال ، { لَعَلَّهُ } بسبب القول اللين { يَتَذَكَّرُ } ما ينفعه فيأتيه ، { أَوْ يَخْشَى } ما يضره فيتركه ، فإن القول اللين داع لذلك ، والقول الغليظ منفر عن صاحبه ، وقد فسر القول اللين في قوله : { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } فإن في هذا الكلام ، من لطف القول وسهولته ، وعدم بشاعته ما لا يخفى على المتأمل ، فإنه أتى ب " هل " الدالة على العرض والمشاورة ، التي لا يشمئز منها أحد ، ودعاه إلى التزكي والتطهر من الأدناس ، التي أصلها ، التطهر من الشرك ، الذي يقبله كل عقل سليم ، ولم يقل " أزكيك " بل قال : " تزكى " أنت بنفسك ، ثم دعاه إلى سبيل ربه ، الذي رباه ، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة ، التي ينبغي مقابلتها بشكرها ، وذكرها فقال : { وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } فلما لم يقبل هذا الكلام اللين الذي يأخذ حسنه بالقلوب ، علم أنه لا ينجع فيه تذكير ، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر .
وقوله - تعالى - : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } إرشاد منه - سبحانه - إلى الطريقة التى ينبغى لهما أن يسلكاها فى مخاطبة فرعون .
أى : اذهبا إليه ، وادعواه إلى ترك ما هو فيه من كفر وطغيان ، وخاطباه بالقول اللين ، وبالكلام الرقيق .
فإن الكلام السهل اللطيف من شأنه أن يكسر حدة الغضب ، وأن يوقظ القلب للتذكر ، وأن يحمله على الخشية من سوء عاقبة الكفر والطغيان .
وهذا القول اللين الذى أمرهما الله - تعالى - به هنا قد جاء ما يفسره فى آيات أخرى ، وهى قوله - تعالى - : { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى . . } فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على ألطف أساليب المخاطبة وأرقها وألينها وأحكمها .
قال ابن كثير : قوله { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً . . } هذه الآية فيها عبرة عظيمة ، وهى أن فرعون كان فى غاية العتو والاستكبار ، وموسى كان صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين كما قال يزيد الوقاشى عند قراءته لهذه الآية : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟
والحاصل أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل ، ليكون أوقع فى النفوس وأبلغ وأنجع ، كما قال - تعالى - : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } والترجى فى قوله - تعالى - : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } على بابه إلا أنه يعود إلى موسى وهارون .
أى : اذهبا إليه ، وألينا له القول ، وباشرا الأمر معه مباشرة من يرجو ويطمع فى نجاح سعيه ، وحسن نتيجة قوله .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : والترجى لهما أى : اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر عليه فهو يجتهد بطوقه ، ويحتشد - أى - يستعد ويتأهب - بأقصى وسعه ، وجدوى إرسالهما إليه مع العلم أنه لن يؤمن ، إلزام الحجة ، وقطع المعذرة ، كما قال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } ويرى بعضهم أن الترجى هنا للتعليل . أى : فقولا له قولا لينا لأجل أن يتذكر أو يخشى .
قال الآلوسى : قال الفراء : " لعل " هنا بمعنى كى التعليلية . . . وعن الواقدى : أن جميع ما فى القرآن من " لعل " فإنها للتعليل ، إلا قوله - تعالى - { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } فإنها للتشبيه أى : كأنكم تخلدون .
( فقولا له قولا لينا )فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم ؛ ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة . ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان .
اذهبا إليه غير يائسين من هدايته ، راجيين أن يتذكر ويخشى . فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة ، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار .
وإن الله ليعلم ما يكون من فرعون . ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه . والله يحاسب الناس على ما يقع منهم بعد أن يقع في عالمهم . وهو عالم بأنه سيكون . فعلمه تعالى بمستقبل الحوادث كعلمه بالحاضر منها والماضي في درجة سواء .
{ فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } هذه الآية فيها عبرة عظيمة ، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار ، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين ، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } : يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟
وقال وهب بن مُنَبه : قولا له : إني إلى العفو والمغفرة أقربُ مني إلى الغضب والعقوبة .
وعن عكرمة في قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } قال : لا إله إلا الله ، وقال{[19369]} عمرو بن عبيد ، عن الحسن البصري : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } أعْذرا إليه ، قولا له : إن لك ربًا ولك معادًا ، وإن بين يديك جنة ونارا .
وقال بقيَّة ، عن علي بن هارون ، عن رجل ، عن الضحاك بن مُزَاحم ، عن النزال بن سَبْرَة ، عن علي في قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } قال : كَنِّه .
وكذا روي عن سفيان الثوري : كَنّه بأبي مُرَّة .
والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل ، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع ، كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } الآية [ النحل : 125 ] .
[ قوله ]{[19370]} { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي : لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة ، { أَوْ يَخْشَى } أي : يُوجد طاعة من خشية ربه ، كما قال تعالى :
{ لمن أراد أن يذكر أو يخشى }{[19371]} فالتذكر : الرجوع عن المحذور ، والخشية : تحصيل الطاعة .
وقال الحسن البصري [ في قوله ]{[19372]} { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } يقول : لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون : أهْلكْه قبل أن أعذر{[19373]} إليه .
وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ، ويروى لأمَيّة بن أبي الصَّلْت فيما ذكره ابن إسحاق :
وأنت الذي من فضل مَنٍّ ورحمة *** بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له يا اذهب وهارون فادعُوَا *** إلى الله فرعون الذي كان باغيا
فقولا له هل أنت سوّيت هذه *** بلا وتد حتى استقلت كما هيا
وقولا له آأنت رَفَّعت هذه *** بلا عمد? أرفق إذن بك بانيا
وقولا له آأنت سويت وسطها *** منيرًا إذا ما جَنَّه الليل هاديا
وقولا له من يخرج الشمس بكرةً *** فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى *** فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رءوسه{[19374]} *** ففي ذاك آيات لمن كان واعيا{[19375]} .
{ فقولا له قولا لينا } مثل { هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى } فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما ؛ أو احتراما لما له من حق التربية عليك . وقيل كنياه وكان له ثلاث : كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة . وقيل عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا يزول إلا بالموت . { لعله يتذكر أو يخشى } متعلق ب { اذهبا } أو " قولا " أي : باشرا الأمر على رجائكما . وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب سعيكما ، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف ، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم ، ولذلك قدم الأول أي إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى .