{ ثم رددناه أسفل سافلين } يريد إلى الهرم وأرذل العمر ، فينقص عقله ويضعف بدنه ، والسافلون : هم الضعفاء والزمنى والأطفال ، فالشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً ، و{ أسفل سافلين } نكرة تعم الجنس ، كما تقول : فلان أكرم قائم . وفي مصحف عبد الله أسفل السافلين . وقال الحسن ، وقتادة ، ومجاهد : يعني ثم رددناه إلى النار ، يعني إلى أسفل السافلين ، لأن جهنم بعضها أسفل من بعض . قال أبو العالية : يعني إلى النار في شر صورة ، في صورة خنزير .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } معطفو على ما قبله وداخل فى حيز القسم . وضمير الغائب يعود إلى الإِنسان .
وحقيقة الرد : إرجاع الشيء إلى مكانه السابق ، والمراد به هنا : تصيير الإِنسان على حالة غير الحالة التى كان عليها ، وأسفل : أفعل تفضيل ، أي : أشد سفالة مما كان يتوقع .
وللمفسرين فى هذه الآية الكريمة اتجاهات منها : أن المراد بالرد هنا : الرد على الكبر والضعف ، كما قال - تعالى - : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير } وعلى هذا الرأى يكون المردودين إلى أسفل سافلين ، أى : إلى أرذل العمر ، هم بعض أفراد جنس الإِنسان ، لأنه من المشاهد أن بعض الناس هم الذين يعيشون تلك الفترة الطويلة من العمر ، كما قال - تعالى - : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : " وأولى الأقوال فى ذلك عندي بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال معناه : ثم رددناه إلى أرذل العمر ، إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر ، فهو فى أسفل من سفل فى إدبار العمر ، وذهاب العقل . . " .
ومنها : أن المراد بالرد هنا : الرد إلى النار ، والمعنى : لقد خلقنا الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى أقبح صورة ، وأخس هيئة . . حيث ألقينا به في أسفل سافلين ، أي : فى النار ، بسبب استحبابه العمى على الهدى ، والكفر على الإِيمان .
وقد رجح هذا الرأي ابن كثير فقال : قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي : إلى النار . . أي : ثم بعد هذا الحسن والنضارة ، مصيره إلى النار ، إن لم يطع الله - تعالى - ويتبع الرسل .
والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية . فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها . إذ أنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين .
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني . فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين . كما تشهد بذلك قصة المعراج . . حيث وقف جبريل - عليه السلام - عند مقام ، وارتفع محمد بن عبد الله - الإنسان - إلى المقام الأسنى .
بينما هذا الإنسان مهيأ - حين ينتكس - لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط : ( ثم رددناه أسفل سافلين ) . . حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم ، لاستقامتها على فطرتها ، وإلهامها تسبيح ربها ، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى . بينما هو المخلوق في أحسن تقويم ، يجحد ربه ، ويرتكس مع هواه ، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه .
( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) . . فطرة واستعدادا . . ( ثم رددناه أسفل سافلين ) . . حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه ، وبينه له ، وتركه ليختار أحد النجدين .
{ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي : إلى النار . قاله مجاهد ، وأبو العالية ، والحسن ، وابن زيد ، وغيرهم .
ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار إن لم يطع الله ويتبع الرسل ؛ ولهذا قال : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
وقال بعضهم : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي : إلى أرذل العمر . رُوي هذا عن ابن عباس ، وعكرمة - حتى قال عكرمة : من جمع القرآن لم يُرَدّ إلى أرذل العمر ، واختار ذلك ابن جرير . ولو كان هذا هو المراد لما حَسُن استثناء المؤمنين من ذلك ؛ لأن الهَرَم قد يصيبُ بعضهم ، وإنما المراد ما ذكرناه ، كقوله : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ العصر : 1 - 3 ] .
وقوله : ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ثم رددناه إلى أرذل العمر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى أرذل العمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى أرذل العمر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) يقول : يردّ إلى أرذل العمر ، كبر حتى ذهب عقله ، وهم نفر رُدّوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم ، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سُئل عكرِمة عن قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : ردّوا إلى أرذل العمر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى أرذل العمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : رددناه إلى الهَرَم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الهَرَم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت الحكم يحدّث ، عن عكرِمة ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : الشيخ الهَرِم ، لم يضرّه كبرُه إن ختم الله له بأحسن ما كان يعمل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم رددناه إلى النار في أقبح صورة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : في شر صورة ، في صورة خنزير .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : النار .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إلى النار .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : في النار .
قال : ثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : إلى النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : ( قال ) الحسن : جهنم مأواه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن في قوله( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : في النار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى النار .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال : معناه : ثم رددناه إلى أرذل العمر ، إلى عمر الخَرْفَى الذين ذهبت عقولهم من الهَرَم والكِبر ، فهو في أسفل من سفل : في إدبار العمر وذهاب العقل .
وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب في ذلك ؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم ، وتصريفه في الأحوال ، احتجاجا بذلك على مُنكري قُدرته على البعث بعد الموت . ألا ترى أنه يقول : ( فَمَا يُكَدّبُكَ بَعْدُ بالدّينِ ) يعني : بعد هذه الحُجَج . ومحال أن يحتجّ على قوم كانوا مُنكرين معنى من المعاني ، بما كانوا له مُنكرين . وإنما الحجة على كلّ قوم بما لا يقدرون على دفعه ، مما يعاينونه ويحسّونه ، أو يقرّون به ، وإن لم يكونوا له مُحِسّين .
وإذْ كان ذلك كذلك ، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة مُنكرين ، وكانوا لأهل الهَرَم والخَرَف من بعد الشباب والجَلَد شاهدين ، عُلِم أنه إنما احتجّ عليهم بما كانوا له مُعاينين ، من تصريفه خلقه ، ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجلد ، إلى الهَرَم والضعف وفناء العمر ، وحدوث الخَرَف .
وجملة : { ثم رددناه أسفل سافلين } معطوفة على جملة : { خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } فهي في حيّز القَسَم .
وضمير الغائب في قوله : { رددناه } عائد إلى الإِنسان فيجري فيه الوجهان المتقدمان من التعريف .
و { ثم } لإفادة التراخي الرُّتْبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، لأن الرد أسفل سافلين بعد خلقه محوطاً بأحسن تقويم عجيب لما فيه من انقلاب ما جُبل عليه ، وتغييرُ الحالة الموجودة أعجب من إيجاد حالة لم تكن ، ولأنّ هذه الجملة هي المقصود من الكلام لتحقيق أن الذين حادوا عن الفطرة صاروا أسفل سافلين .
والمعنى : ولقد صيرناه أسفل سافلين ، أو جعلناه في أسفل سافلين .
والرد حقيقته إرجاع ما أخذ من شخص أو نُقل من موضع إلى ما كان عنده ، ويطلق الرد مجازاً على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا .
و { أسفل } : اسم تفضيل ، أي أشدَّ سفالة ، وأضيف إلى { سافلين } ، أي الموصوفين بالسفالة .
فالمراد : أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه بقرينة قوله : { إلا الذين آمنوا } [ التين : 6 ] .
وحقيقة السفالة : انخفاض المكان ، وتطلق مجازاً شائعاً على الخسة والحقارة في النفس ، فالأسفل الأشد سفالة من غيره في نوعه .
والسافلون : هم سفلة الاعتقاد ، والإِشراكُ أسفل الاعتقاد فيكون { أسفل سافلين } مفعولاً ثانياً ل { رددناه } لأنه أجري مجرى أخوات صار .
والمعنى : أن الإِنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإِيمان بإله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين ، وهل أسفلُ ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوانِ الأبكم مِن بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السَّمُر ، أو مَن يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر ، أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإِنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل ، فمِن مَلَق إذا طمِع ، ومن شُحّ إذا شجع ، ومن جزع إذا خاف ، ومن هلع ، فكم من نفوس جُعلت قرابين للآلهة ، ومن أطفال موءودة ، ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن ، فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفن الرأي .
وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكوّن الأسبابَ العالية ونظامَ تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية ، حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مدّ وقبض الظل إليه تعالى في قوله : { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } إلى قوله : { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } [ الفرقان : 45 ، 46 ] وعلى نحو الإِسناد في قول الناس : بنَى الأمير مدينةَ كذا .
ويجوز أن يكون { أسفل سافلين } ظرفاً ، أي مكاناً أسفلَ مَا يسكنه السافلون ، فإضافة { أسفل } إلى { سافلين } من إضافة الظرف إلى الحالِّ فيه ، وينتصب { أسفل } ب { رددناه } انتصاب الظرف أو على نزع الخافض ، أي إلى أسفل سافلين ، وذلك هو دار العذاب كقوله : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه ، وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي .
وأحسب أن قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين } انتزَع منه مالك رحمه الله ما ذكره عياض في « المدارك » قال : قال ابن أبي أويس : قال مالك : أقبلَ عليَّ يوماً ربيعة فقال لي : مَن السَّفلة يا مالك ؟ قلت : الذي يأكل بدينه ، قال لي : فمن سفلة السفلة ؟ قلت : الذي يأكل غيرُه بدينه . فقال : ( زِهْ ) {[459]} وصدَرني ( أي ضرب على صدرِي يعني استحساناً ) . وأنَّ المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ضلّلهم كبراؤهم وأيمتهم فسوّلوا لهم عبادة الأصنام لينالوا قيادتهم .