{ يوفون بالنذر } هذا من صفاتهم في الدنيا أي كانوا في الدنيا كذلك . قال قتادة : أراد يوفون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة ، وغيرها من الواجبات ، ومعنى النذر : الإيجاب . وقال مجاهد وعكرمة : إذا نذروا في طاعة الله وثوابه .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " . { ويخافون يوماً كان شره مستطيراً } فاشياً ممتداً ، يقال استطار الصبح ، إذا امتد . قال مقاتل : كان شره فاشياً في السماوات فانشقت ، وتناثرت الكواكب ، وكورت الشمس والقمر ، وفزعت الملائكة ، وفي الأرض : فنسفت الجبال ، وغارت المياه ، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء .
وقد ذكر{[1307]} جملة من أعمالهم في أول هذه السورة ، فقال : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } أي : بما ألزموا به أنفسهم لله من النذور والمعاهدات ، وإذا كانوا يوفون بالنذر ، وهو لم يجب{[1308]} عليهم ، إلا بإيجابهم على أنفسهم ، كان فعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية ، من باب أولى وأحرى ، { وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } أي : منتشرا فاشيا ، فخافوا أن ينالهم شره ، فتركوا كل سبب موجب لذلك .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك فى آيات متعددة ، الأسباب التى من أجلها وصلوا إلى النعيم الدائم . فقال - تعالى - : { يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } .
والنذر : ما يوجبه الإِنسان على نفسه من طاعة الله - تعالى - ، والوفاء به : أداؤه أداء كاملا . أى : أن من الأسباب التى جعلت الأبرار يحصلون على تلك النعم ، أنهم من أخلاقهم الوفاء بالنذل ، ومن صفاتهم - أيضا - أنهم يخافون يوما عظيما هو يوم القيامة ، الذى كان عذابه فاشياً منتشراً غاية الانتشار .
فقوله : { مُسْتَطِيراً } اسم فاعل من استطار الشئ إذا انتشر وامتد أمره ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وأصله طار . ومنه قولهم : استطار الغبار ، إذا انتشر فى الهواء وتفرق وجئ بصيغة المضارع فى قوله : { يُوفُونَ } للدلالة على تجدد وفائهم فى كل وقت وحين .
والتعريف فى " النذر " للجنس ، لأنه يعم كل نذر .
وجاء لفظ اليوم منكراً ، ووصف بأن له شراً مستطيرا . . لتهويل أمره ، وتعظيم شأنه ، حتى يستعد الناس لاستقباله بالإِيمان والعمل الصالح .
ثم يعرف بهؤلاء الأبرار عباد الله الذين قسم لهم هذا المتاع :
( يوفون بالنذر ، ويخافون يوما كان شره مستطيرا ، ويطعمون الطعام - على حبه - مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ) . .
وهي صورة وضيئة شفافة لقلوب مخلصة جادة عازمة على الوفاء لله بتكاليف العقيدة ، مع رحمة ندية بعباده الضعاف ، وإيثار على النفس ، وتحرج وخشية لله ، ورغبة في رضاه ، وإشفاق من عذابه تبعثه التقوى والجد في تصور الواجب الثقيل .
( يوفون بالنذر )فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات ، وما التزموا من الواجبات . فهم يأخذون الأمر جدا خالصا لا يحاولون التفلت من تبعاته ، ولا التفصي من أعبائه ، ولا التخلي عنه بعد اعتزامه . وهذا معنى أنهم يوفون بالنذر . فهو أعم من المعنى العرفي المتبادر من كلمة( النذر ) .
( ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) . . فهم يدركون صفة هذا اليوم ، الذي يتفشى شره ويصيب الكثيرين من المقصرين والمسيئين . فيخافون أن ينالهم شيء من شره . وهذه سمة الأتقياء ، الشاعرين بثقل الواجب وضخامة التكاليف ، الخائفين من التقصير والقصور ، مهما قدموا من القرب والطاعات .
وقوله : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } أي : يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من [ فعل ]{[29590]} الطاعات الواجبة بأصل الشرع ، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر .
قال الإمام مالك ، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي ، عن القاسم بن مالك ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يَعصي الله فلا يَعصِه " ، رواه البخاري من حديث مالك{[29591]} .
ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد ، وهو اليوم الذي شره مستطير ، أي : منتشر عام على الناس إلا من رَحِمَ الله .
قال ابن عباس : فاشيًا . وقال قتادة : استطار - والله - شرّ ذلك اليوم حتى مَلأ السماوات والأرض .
قال ابن جرير : ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال . ومنه قول الأعشى :
فَبَانَتْ وَقَد أسْأرت في الفُؤا *** د صَدْعًا ، على نَأيها مُستَطيرًا{[29592]}
القول في تأويل قوله تعالى : { يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } .
يقول تعالى ذكره : إن الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، برّوا بوفائهم لله بالنذور التي كانوا ينذرونها في طاعة الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُوفُونَ بالنّذْرِ قال : إذا نذروا في حق الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُوفُونَ بالنّذْرِ قال : كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة ، والحجّ والعمرة ، وما افترض عليهم ، فسماهم الله بذلك الأبرار ، فقال : يُوفُونَ بالنّذْرِ ويَخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يُوفُونُ بالنّذْرِ قال : بطاعة الله ، وبالصلاة ، وبالحجّ ، وبالعمرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قوله : يُوفُونَ بالنّذْرِ قال : في غير معصية .
وفي الكلام محذوف اجتزىء بدلالة الكلام عليه منه ، وهو كان ذلك . وذلك أن معنى الكلام : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، كانوا يوفون بالنذر ، فترك ذكر كانوا لدلالة الكلام عليها والنذر : هو كلّ ما أوجبه الإنسان على نفسه من فعل ومنه قول عنترة :
الشّاتِمَيْ عِرْضِي وَلمْ أشْتُمْهُما *** والنّاذِرَيْنَ إذا لَمْ ألْقَهُما دَمي
وقوله : وَيخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا يقول تعالى ذكره : ويخافون عقاب الله بتركهم الوفاء بما نذروا لله من برّ في يوم كان شرّه مستطيرا ، ممتدّا طويلاً فاشيا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا استطاروا الله شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض .
وأما رجل يقول عليه نذر أن لا يصل رحما ، ولا يتصدّق ، ولا يصنع خيرا ، فإنه لا ينبغي أن يكفر عنه ، ويأتي ذلك ، ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال : إذا امتدّ ، ولا يقال ذلك في الحائط ومنه قول الأعشى :
فَبانَتْ وَقد أثأرَتْ فِي الفُؤَا *** دِ صَدْعا عَلى نَأَيِها مُسْتَطِيرَا
وصف الله تعالى حال الأبرار أنهم كانوا { يوفون بالنذر } ، أي بكل ما نذروه وأعطوا به عهداً{[11504]} ، يقال وفى الرجل وأوفى ، و «اليوم » المشار إليه يوم القيامة ، و { مستطيراً } معناه متصلاً شائعاً كاستطارة الفجر والصدع في الزجاجة ، وبه شبه في القلب ، ومن ذلك قول الأعشى : [ المتقارب ]
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد*** صدعاً على نأيها مستطيرا{[11505]}
أراد الظاعنون لحيزنوني*** فهاجوا صدع قلبي فاستطاروا{[11506]}
اعتراض بين جملة { يَشْربون من كأس } [ الإنسان : 5 ] الخ وبين جملة { ويطاف عليهم بآنية من فضة } [ الإنسان : 15 ] الخ . وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفسه السامع المغتبِط بأن ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة . فيهتم بأن يفعل مثل ما فعلوا ، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإِيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا .
والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات ، بعضُه وصف لحالهم في الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة ، فلا حاجة إلى قول الفراء : إن في الكلام إضماراً وتقديره : كانوا يُوفُون بالنذر .
وليست الجملة حالاً من { الأبرار } [ الإنسان : 5 ] وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالاً لكانت قيداً ل { يشربون } [ الإنسان : 5 ] ، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا .
والوفاء : أداء ما وجب على المؤدي وافياً دون نقص ولا تقصير فيه .
والنذر : ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نِيته ، قال عنترة :
والنَّاذِرَيْنِ إذا لم ألْقهما دَمي
والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإِيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة { الأبرار } [ الإنسان : 5 ] . r
ويجوز أن يراد { بالنذر } ما ينذرونه من فعل الخير المتقرَّب به إلى الله ، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم .
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من الإِيمان والعمل الصالح ، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجباً الثناء عليهم .
والتعريف في ( النذر ) تعريف الجنس فهو يعم كل نذر .
وعطف على { يوفون بالنذر } قوله : { ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً } لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال .
وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعلق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوْف بزمان الأشياء المخوفة .
وانتصب { يوماً } على المفعول به ل { يخافون } ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوفهم في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم ، وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون .
ووُصِف اليومُ بأن له شرّاً مستطيراً وصفاً مشعراً بعلة خوفهم إياه . فالمعنى : أنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يُفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب .
والشر : العذاب والجزاء بالسوء .
والمستطير : هو اسم فاعل من استطار القاصر ، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر . والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيهاً له بانتشار الطير في الجو ، ومنه قولهم : الفجر المستطير ، وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوؤه في الأفق ويقال : استطار الحريق إذا انتشر وتلاحق .
وذكر فعل { كان } للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلاّ فإن شر ذلك اليوم ليس واقعاً في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد ، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه .
وصيغة { يخافون } دالة على تجدد خوفهم شّر ذلك اليوم على نحو قوله : { يوفون بالنذر } .