قوله تعالى : { يُوفُونَ بالنذر } يجوز أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ألبتة ، ويجوز أن يكون خبراً ل «كان » مضمرة .
قال الفراء : التقدير «كانوا يوفون بالنَّذر في الدنيا ، وكانوا يخافُون » انتهى . وهذا لا حاجة إليه .
الثالث : جواب لمن قال : ما لهم يرزقون ذلك ؟ .
قال الزمخشري : «يوفون » جواب من عيسى يقول : ما لهم يرزقون ذلك ؟ .
قال أبو حيان{[58849]} : «واستعمل » «عسى » صلة ل «من » وهو لا يجوز ، وأتى بالمضارع بعد «عسى » «غير مقرون » ب «أن » وهو قليل أو في الشعر » .
معناه : لا يخلفون إذا نذروا ، وقال معمر عن قتادة : يأتون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات{[58850]} .
وقال مجاهد وعكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله تعالى{[58851]} .
وقال الفراء والجرجاني : وفي الكلام إضمار ، أي : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا والعرب قد تزيد مرة «كان » وتحذف أخرى .
وقال الكلبي : «يُوفُونَ بالنَّذرِ » أي : يتممون العهود لقوله تعالى { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله } [ النحل : 91 ] و { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] أمرٌ بالوفاء بها ؛ لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان .
قال القرطبي{[58852]} : «والنذر : حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه [ من شيء يفعله ، وإن شئت قلت في حد النذر هو إيجاب المكلف على نفسه ]{[58853]} من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه » .
وقال ابن الخطيب{[58854]} : الإيفاءُ بالشيء هو الإتيان به وافياً .
وقال أبو مسلم : النذر كالوعد ، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر ، وإن كان من الله فهو وعد ، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن تقول : لله عليَّ كذا وكذا من الصدقة ، أو يسلم بأمر يلتمسه من الله - تعالى - مثل أن تقول : إن شفى الله مريضي ، أو ردَّ غائبي فعليَّ كذا وكذا ، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كقوله : إن أتى فلان الدَّار فعلي هذا ، فمنهم من جعله كاليمين ، ومنهم من جعله من باب النذور .
قال القشيري : روى أشهب عن مالك - رضي الله عنه - أنه قال «يُوفُونَ بالنَّذْرِ » هو نذر العتق ، والصيام والصلاة .
وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال : قال مالك : «يُوفُونَ بالنَّذرِ » قال : النذر هو اليمين .
قال ابن الخطيب{[58855]} : هذه الآية تدلّ على وجوب الوفاء بالنذر ؛ لأنه تعالى قال عقيبه : «ويخَافُونَ يَوْماً » وهذا يقتضي أنهم إنما وفَّوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم ، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً ويؤكده قوله تعالى :
{ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [ النحل : 91 ] وقوله تعالى : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [ الحج : 29 ] وهذا محتمل ليوفوا أعمال نسكهمُ التي ألزموها أنفسهم .
قال الفراء وجماعة من أهل المعاني : «كان » في قوله تعالى : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة ، والتقدير : كانوا يوفون بالنذر .
قال ابن الخطيب{[58856]} : ولقائل أن يقول : إنا بينا أن «كان » في قوله تعالى : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } ليست بزائدة ، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها ؛ لأنه - تعالى - ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي : سيشربون ، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنه الآن يوفون بالنذر .
قوله : { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } ، أي : يخافون يوم القيامة ، و«كَانَ شَرُّهُ » في موضع نصب صفة ل «يَوْم » .
و«المُسْتطِيرُ » : المنتشر ، يقال : اسْتَطَار يَسْتطِيرُ اسْتيطَاراً ، فهو مستطير ، وهو «استفعل » من الطيران .
5034- فَبَانَتْ وقَدْ أسْأرَتْ في الفُؤا *** دِ صَدعاً على نَأيِهَا مُسْتَطيرَا{[58857]}
والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة ، أو استطال إذا امتدّ ، ويقال : استطار الحريق إذا انتشر .
وقال الفرَّاء : المستطير : المستطيل ، كأنه يريد أن مثله في المعنى ، لأنه أبدل من اللام راء ، والفجر : فجران ، مستطيل كذنبِ السَّرحان وهو الكاذب ، ومستطير ، وهو الصادق لانتشاره في الأفق .
قال قتادة : استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض{[58858]} .
وقال مقاتل : كان شره فاشياً في السموات ، فانشقت وتناثرت بالكواكبِ وفزعت الملائكة في الأرض ، ونسفت الجبال وغارت المياه{[58859]} .
فإن قيل : أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله تعالى ، وكل ما كان فعلاً لله ، فهو حكمه وصواب ، وما كان كذلك لا يكون شرًّا ، فكيف وصفها الله بأنها شرّ ؟ .
والجواب : إنما سميت شرًّا لكونها مضرة بمن تنزل عليه ، وصعبة عليه كما سميت الأمراض ، وسائر الأمور المكروهة شروراً .
قال ابن الخطيب{[58860]} : وقيل : المستطير هو الذي يكون سريع الوصول إلى أهله ، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع .
فإن قيل : لم قال : كان شره ، ولم يفل : سيكون شره مستطيراً ؟ .
فالجواب : أن اللفظ وإن كان للماضي إلا أن معناه كان شره في علم الله وحكمته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.