اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ وَيَخَافُونَ يَوۡمٗا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِيرٗا} (7)

قوله تعالى : { يُوفُونَ بالنذر } يجوز أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ألبتة ، ويجوز أن يكون خبراً ل «كان » مضمرة .

قال الفراء : التقدير «كانوا يوفون بالنَّذر في الدنيا ، وكانوا يخافُون » انتهى . وهذا لا حاجة إليه .

الثالث : جواب لمن قال : ما لهم يرزقون ذلك ؟ .

قال الزمخشري : «يوفون » جواب من عيسى يقول : ما لهم يرزقون ذلك ؟ .

قال أبو حيان{[58849]} : «واستعمل » «عسى » صلة ل «من » وهو لا يجوز ، وأتى بالمضارع بعد «عسى » «غير مقرون » ب «أن » وهو قليل أو في الشعر » .

فصل في معنى الآية

معناه : لا يخلفون إذا نذروا ، وقال معمر عن قتادة : يأتون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات{[58850]} .

وقال مجاهد وعكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله تعالى{[58851]} .

وقال الفراء والجرجاني : وفي الكلام إضمار ، أي : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا والعرب قد تزيد مرة «كان » وتحذف أخرى .

وقال الكلبي : «يُوفُونَ بالنَّذرِ » أي : يتممون العهود لقوله تعالى { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله } [ النحل : 91 ] و { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] أمرٌ بالوفاء بها ؛ لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان .

قال القرطبي{[58852]} : «والنذر : حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه [ من شيء يفعله ، وإن شئت قلت في حد النذر هو إيجاب المكلف على نفسه ]{[58853]} من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه » .

وقال ابن الخطيب{[58854]} : الإيفاءُ بالشيء هو الإتيان به وافياً .

وقال أبو مسلم : النذر كالوعد ، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر ، وإن كان من الله فهو وعد ، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن تقول : لله عليَّ كذا وكذا من الصدقة ، أو يسلم بأمر يلتمسه من الله - تعالى - مثل أن تقول : إن شفى الله مريضي ، أو ردَّ غائبي فعليَّ كذا وكذا ، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كقوله : إن أتى فلان الدَّار فعلي هذا ، فمنهم من جعله كاليمين ، ومنهم من جعله من باب النذور .

فصل في المراد بالإيفاء بالنذر

قال القشيري : روى أشهب عن مالك - رضي الله عنه - أنه قال «يُوفُونَ بالنَّذْرِ » هو نذر العتق ، والصيام والصلاة .

وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال : قال مالك : «يُوفُونَ بالنَّذرِ » قال : النذر هو اليمين .

قال ابن الخطيب{[58855]} : هذه الآية تدلّ على وجوب الوفاء بالنذر ؛ لأنه تعالى قال عقيبه : «ويخَافُونَ يَوْماً » وهذا يقتضي أنهم إنما وفَّوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم ، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً ويؤكده قوله تعالى :

{ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [ النحل : 91 ] وقوله تعالى : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [ الحج : 29 ] وهذا محتمل ليوفوا أعمال نسكهمُ التي ألزموها أنفسهم .

فصل في زيادة كان

قال الفراء وجماعة من أهل المعاني : «كان » في قوله تعالى : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة ، والتقدير : كانوا يوفون بالنذر .

قال ابن الخطيب{[58856]} : ولقائل أن يقول : إنا بينا أن «كان » في قوله تعالى : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } ليست بزائدة ، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها ؛ لأنه - تعالى - ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي : سيشربون ، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنه الآن يوفون بالنذر .

قوله : { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } ، أي : يخافون يوم القيامة ، و«كَانَ شَرُّهُ » في موضع نصب صفة ل «يَوْم » .

و«المُسْتطِيرُ » : المنتشر ، يقال : اسْتَطَار يَسْتطِيرُ اسْتيطَاراً ، فهو مستطير ، وهو «استفعل » من الطيران .

قال الأعشى : [ المتقارب ]

5034- فَبَانَتْ وقَدْ أسْأرَتْ في الفُؤا *** دِ صَدعاً على نَأيِهَا مُسْتَطيرَا{[58857]}

والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة ، أو استطال إذا امتدّ ، ويقال : استطار الحريق إذا انتشر .

وقال الفرَّاء : المستطير : المستطيل ، كأنه يريد أن مثله في المعنى ، لأنه أبدل من اللام راء ، والفجر : فجران ، مستطيل كذنبِ السَّرحان وهو الكاذب ، ومستطير ، وهو الصادق لانتشاره في الأفق .

قال قتادة : استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض{[58858]} .

وقال مقاتل : كان شره فاشياً في السموات ، فانشقت وتناثرت بالكواكبِ وفزعت الملائكة في الأرض ، ونسفت الجبال وغارت المياه{[58859]} .

فإن قيل : أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله تعالى ، وكل ما كان فعلاً لله ، فهو حكمه وصواب ، وما كان كذلك لا يكون شرًّا ، فكيف وصفها الله بأنها شرّ ؟ .

والجواب : إنما سميت شرًّا لكونها مضرة بمن تنزل عليه ، وصعبة عليه كما سميت الأمراض ، وسائر الأمور المكروهة شروراً .

قال ابن الخطيب{[58860]} : وقيل : المستطير هو الذي يكون سريع الوصول إلى أهله ، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع .

فإن قيل : لم قال : كان شره ، ولم يفل : سيكون شره مستطيراً ؟ .

فالجواب : أن اللفظ وإن كان للماضي إلا أن معناه كان شره في علم الله وحكمته .


[58849]:ينظر البحر المحيط 8/395.
[58850]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/359) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/483) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[58851]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/359) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/483) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[58852]:الجامع لأحكام القرآن 19/83.
[58853]:سقط من ب.
[58854]:ينظر: الفخر الرازي 30/214.
[58855]:السابق.
[58856]:السابق.
[58857]:تقدم.
[58858]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/359).
[58859]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/84) عن مقاتل.
[58860]:ينظر الفخر الرازي 30/215.